الآباء.. الأبطال الصامتون
عمرٌ كامل، وحياة ممتدة حتى نهايتها، زهرة شباب، وبلوغ أشُدّ، وكهولة وشيخوخة، كل ذلك يمضي دون أن يشعر به أحد، يذهب إلى العمل فجرًا، ويعود بعد نهاية الغروب، رجلٌ لا يرى الشمس إلا يومًا في الأسبوع، أما الأيام الباقية فينصهر تحت حرارتها، منحنيًا على عمله الشاق، مزدرِدًا بصعوبة حماقات المدير، ومتجنبًا جواب الفصل النهائيّ كلما نبضت في عقله فكرة لطمه على وجهه، أو رده الإساءة بأكبر منها، مفكرًا في الأفواه المفتوحة بالمنزل، والصغيرة التي تريد الحلوى وهو عائد من يومه الطويل.
يعود إلى البيت، فتهوّن عليه الأحضانُ المستقبلة كل ما رآه، يعود مغلوبًا فينصرونه بحبهم، ثم تبدأ الخناقات في الاشتعال، والصراعات الداخلية، والأزمات بين لعبة هذه وألاعيب ذاك، حتى يكاد دماغ الأب ينفجر، ويكون الاختفاء هو أقصى أحلامه، أن يصبح شفافًا فجأةً، لا يراه أحد في المكان، لا يشكو إليه مجني عليه ولا يلجأ إليه مظلوم، أن يُغرق رأسه عنوةً في الوسادة، ويغلق أذنيه بالشمع الأحمر، حتى يفضها أمر قضائيٌّ إلهيٌّ فجرًا في اليوم التالي؛ للذهاب إلى العمل.
يصمت الآباء، وكثيرًا ما يلامون على صمتهم، كائنات وحيدة الخلية؟ كائنات قليلة الكلام؟
يصمت الآباء، وكثيرًا ما يلامون على صمتهم، كائنات وحيدة الخلية؟ كائنات قليلة الكلام؟ لا يرونهم في جلساتهم مع أصدقائهم وهم يثرثرون، لكنها ثرثرة المتشابهين في الهم والسعي والكدّ، فيفرغون مخزونهم من سب العمل والمواصلات والطريق وصاحب العمل البغيض وبعض الزملاء "اللي مش سالكين"، والعيال والصداع، ثم يصمتون من جديد، ويعودون للبيوت كأنهم إن تكلموا ماتوا.
تكون ضالتهم أن لا يسمعوا أي شيء، أن تنفصل أسماعهم عن أزيز آلات العمل، وكمبيوترات المكتب، وصياح المهام، وعراك المواصلات، والطلبات والتقارير، ومشكلات الشارع، وإلحاح الباعة، وحاجيات البيت، وصراخ الصغار، وشكاوى الزوجة، وصوت التلفاز المرتفع، كل شيء، لأنهم لا ينعمون بهذه الفرصة أبدًا، منذ أول يوم لهم في الوظيفة قبل عشرين عامًا، وحتى اليوم الأخير لوظائفهم الحيوية قبل توقفها معلنةً الوفاة.
لا يوم عالميًّا (فعليًّا وليس بدافع الشفقة) لهم تُعلّق فيه القلوب وتوجّه المدرّسات الأطفال بشراء باقات الورود، ولا عروض محترمة في المحلات التجارية تنصفهم، ولا أعمال تلفزيونية تخلّد تعبهم وكفاحهم، ولا أحد تقريبًا يذكرهم إلا في إطار الغياب، أنهم مختفون دائمًا في أروقة العمل، وهم لا يدرون أن هؤلاء الآباء، لو كانوا سيخدمون أنفسهم، بلا حياة أسرية ولا دفء عائلي ولا مسؤوليات زوجية وغيرها، فلم يكونوا ليختفوا كل ذلك، إلا أنهم بدافع الغريزة الحقيقية داخلهم، من أجل رؤية من يحبونهم وهم يحصلون على كل ما يريدونه، من خلال جيوبهم.
وهذا ليس من باب الغيرة من الأمهات لا سمح الله، فلكل مسؤولياته وجهده وتقديره، وإنما من باب الإحساس بالأب الذي لا يشعر به أحد، ولا يتذكره أحد، إلا حين يُلحق به "رحمه الله"، أو يسبقه "المرحوم"، فيُكرمون وهم في قبورهم لا يسمعون من الثناء شيئًا، بعدما ماتوا ظمأى لكلمة تنصفهم وهم على قيد الحياة، رغم أنهم لا يشغلون بالهم بذلك ما داموا يرون الابتسامات مرسومة على شفاه رعيّتهم، فإنهم يكونوا أدّوا ما عليهم وزيادة.
فالرسالة ليست إلى الآباء هذه المرة، وإنما إلى العاقّين جميعًا -كلنا ولا أستثني أحدًا- أن يغدقوا الحنان على أرباب الحنان، وأن يعترفوا بامتنانهم بالمضحّين طوال الوقت، "للسوبر هيروز" المجهولين، الذين يفضّلون البقاء خلف الكواليس، يصفّقون لخلفائهم ويمسحون دمعات هاربة من عيونهم التي تظاهر بالجفاف، ولا تشتروا لهم الورد، وإنما أحذية مريحة أو قمصانًا طريّة أو بناطيل أنيقة، تشعرهم أن هناك من يهتم بأن يكونوا مرتاحين، واصنعوا الكثير من الضجيج حول أبطالنا الصامتين.