الأفكار على قارعة تشيخوف
ما زلت أذكر حتى كتابة هذه السطور ذلك اللحن اليوناني الجميل وقد تناهى إلى سمعي أثناء وجودي في العاصمة أثينا قبل ما يزيد على الست سنوات. كنا آنذاك في خضم رحلة اللجوء "بل الهروب" إلى أي عالم آخر غير الذي قاسينا فيه من العذاب والرعب ما قاسينا.
لكن ذاك اللحن بالذات استوقف تفكيري تماماً واستدعى تأملي وأنا أبحث بين الطرقات عن أي زاوية لأستظل بها من قيظ أعتى فصول السنة طولاً واختناقاً. ظننت لوهلة أني لم أبارح بلادي ولم أهجرها بتاتاً، وكنت أنتظر صوت المطرب أن يبدأ في ترديد كلمات أعرفها وأحفظها عن ظهر قلب، وعندما نطق وراح يغني لم أفهم شيئاً مما قال على الإطلاق!
هل هذا هو المطرب الفلاني المعروف عندنا؟! بالتأكيد لا! لكن اللحن هو ذاته بلا زيادة أو نقصان! ومن سرق من الآخر يا ترى؟! مطربنا أم مطربهم؟! نظرت من حولي فوجدتني في المكان الذي كنت فيه. واتضح أن الأغنية التي ظننت أني أسمعها وأنا أنتظر الميكروباص أسفل "جسر الرئيس" في دمشق كانت تصدر حقيقة عن "مسجلة" بحوزة عامل يوناني في أحد الأكشاك المحيطة بساحة أمونيا!
الأمر للأسف لا يحتاج إلى أدلة قاطعة لنعرف شخص المذنب الحقيقي، فسجلنا حافل بالسرقات الأدبية والفنية وإغفال أسماء الضحايا. وكما قال مرة سيناريست معروف لدينا، فإن معظم كتابنا لم يدعوا شبراً من جلد الروسي "تشيخوف" والتركي "نيسين" إلا وسلخوه ونهشوه..! "كناية عن السطو على مجمل أعمالهما".
فمن منا مثلاً لم يتابع سلسلة "مرايا" التي عالج فيها الفنان ياسر العظمة أعداداً غفيرة من أفكار الأديبين وأدباء آخرين أمثال تولستوي وغوركي. لكن حصة الأسد كانت دائماً من نصيب "تشيخوف"، والقارئ لقصته الشهيرة "وفاة موظف" بإمكانه مراجعتها بصرياً مرة أخرى في لوحة "حدث في السينما" من سلسلة مرايا 95، وقد يعرج أيضاً على قصة "الحرباء" لنفس المؤلف ويتعرف على قضية كلب الضابط المدلل الذي عض وخدش عامة بسطاء.. وغيرها الكثير، كتلك التي جسدها الفنان "باسل الخياط" وتحكي عن الطماع ومآل صاحبه الحتمي، أو كما عنونها "تولستوي" في كتابه بدائع الخيال "كم هو نصيب الإنسان من الأرض؟".
ماذا كان صاحب اللحن اليوناني ليقول لو سمع آخر "في ما وراء المتوسط" يغني على إيقاع أغنيته؟!
وللأمانة فإن الفنان السوري لم يكن يتعمد إغفال صاحب الفكرة الأصلي في كل اللوحات "ضماناً لمصداقيته ربما في عملية النسخ والمعالجة ثم اللصق"!، مثلاً كما في لوحة "خبر حلو" من سلسلة مرايا 2003، المأخوذة عن رواية "الخيميائي" للبرازيلي باولو كويلو وحكاية بطلها "سانتياغو" وحلم كنزه المدفون أسفل أهرامات مصر،.. و"الرهان" لـ "تشيخوف" أيضاً، التي جسدت كذلك عربياً من قبل مع الاحتفاظ بطابعها الأصلي دون إسقاطها مجازياً على أمكنة وأسماء أخرى "بخلاف نسخة مرايا"، عبر فيلم سينمائي قديم من صناعة مصرية "أحمد صلاح الدين في الإخراج و يحيى الفخراني مع عبد الرحمن أبو زهرة في الأداء والبطولة".
ولكن.. هل تشفع لـ"العظمة" مقولته التي اعتمدها افتتاحية لأحد أجزاء سلسلته "مما قرأ .. وسمع .. وشاهد"، في "التكويش" على نتاج الآخرين دون إرجاع الفضل لهم وبنفس الطريقة السهلة التي أرفق بها عبارته تلك في صدر الشارة عند المنتجة؟! أو حتى وقفته الأخيرة في عمله المخيب للآمال "السنونو" وكلماته المؤثرة على أعتاب باخرته المسلوبة، وكأننا لم نتابع قط رائعة الإيطالي جوزيبي تورناتوري "الأسطورة 1900"، ولم نشاهد بطلها "تيم روث" وهو يحاكي - ولكن دون تصنع - ذات العبارات و الانفعالات حين كاد يحرم من موطنه الذي ولد وعاش.. ومات فيه مختاراً.. أو فيها "باخرة المهاجرين" تلك؟!
أما ما أثار حنقي أكثر لولعي الشخصي بأعمال الكاتب الروسي العظيم أنطون تشيخوف فهو "لطش" قصة أخرى له بعنوان "مع سبق الإصرار"، فأثناء تصفحي مؤخراً لحلقات الجزء الثاني من مسلسل "بقعة ضوء" ذي التأليف السوري المشترك "من باب كسر الرتابة والملل"، وقع نظري على اسم لوحة أثار في الشك المباشر، و لمجرد قراءتي العنوان قبل الخوض في التفاصيل، وجدت التالي "قضية العزقة.. تأليف رافي وهبي"، فعلمت وقتها أن "تشيخوف" بقلمه وأوراقه وخياله سيكون حاضراً فيها لا محالة، وأن قصته تلك التي طرأت على مخيلتي فجأة دون سواها هي المعنية والضحية.
وعن أداء كل من الراحل نضال سيجري وباسم ياخور في اللوحة، إذ لا مجال للنقد والاستهانة بهما. وقرأت تعليقات الكثيرين ممن أرجعوا الفضل في تحليق الثنائي بفضاء "ضيعة ضايعة" على مدار جزأين كاملين، إلى تلك اللوحة بالذات! معناه أن الفضل كله يرجع لـ"تشيخوف" أولاً! ولكن دون أي إشارة ولا تلميح إلى صاحب الفضل، فالأفكار يا عزيزي على قارعة تشيخوف "يقول السارق"!
هذه القصة بالذات لها موقف يرويه لنا صديق تشيخوف المقرب الأديب مكسيم غوركي، ولهذا التصقت بذاكرتي وأوقعت منتحلها بين فكي كماشة، إذ يقول غوركي إن وكيل نيابة حاول تبرير الحكم الذي صدر بحق بطل القصة الأصلية الفلاح البسيط "دينيس جريجورييف" بما تمليه مصالح المجتمع! فاعترض تشيخوف مؤكداً تبرئته لو كان قاضياً، وعندما سأله الوكيل الشاب "على أي أساس"؟!، فأجاب: كنت سأقول له "أنت يا دينيس لم تبلغ بعد مرتبة المجرم الواعي.. اذهب.. وابلغها!".
ماذا كان تشيخوف ليقول يا ترى لو رأى مثيلاً - يشبه إلى حد كبير - مسرحيته الشهيرة "الدب" تطوف شاشات السينما والتلفزة قبل أكثر من عشر سنوات باسم مستعار وهو "بوبوس"، الفيلم الذي كان من بطولة عادل إمام ويسرا وإخراج وائل إحسان.. وتأليف أنطون تشيخوف.. أقصد.. يوسف معاطي..!
أو ماذا كان صاحب اللحن اليوناني ليقول لو سمع آخر "في ما وراء المتوسط" يغني على إيقاع أغنيته؟! هل كان ليقول له مثل ما قيل لجريجورييف "أنت يا فلان لم تبلغ بعد مرتبة السارق الواعي.. اذهب.. وابلغها"؟!.