قف للمخبر وفه التبجيلا...!
قد بحثوا في أمري كثيراً
وقرأوا كلّ تقاريري
وعجبوا لفصاحة قلمي
حتى في حصص الجغرافيا
كنت إذا ما قيل بأنّ الأرض تدور
أدور بدوري بين الناس لأعلم
ماذا يقال عن السلطان
وماذا في الأذهان يدور..!
مالي للتاريخ أو الموسيقى أو التربية الدينية
وما ذنبي.. أن صرت مدرّس قومية؟!
كان ذلك مقطعا من قصيدة ساخرة حاولت مرة من خلالها تبيان مأزق أحد الأساتذة الموكلين عادة بتدريس مادة القومية أو ما يعرف بالتربية الوطنية!. حيث لا يجد المدرس فيها بداً من فضح نفسه أمام طلابه الذين لطالما سخروا منه ومن حصصه كافة بالسر والعلن، بل وتمادوا في إظهار تعابير الملل والكآبة أمامه حتى ضاق منهم ذرعا، وراح يبث لهم شكواه وأوجاعه بدلا من تخويفهم أو زجرهم.
وبدا فيها غير آبه وهو يعرض عليهم تلك التراتبية التي أوصلته إلى ما هو عليه الآن، إذ كان في حالة من الصراحة المشوبة بالندم والحزن، وقد أعماه الغضب من نفسه والذين وظفوه، لكنه يعود ليقول إن لا حيلة له في الأمر كله، وإنه كان يتمتع بموهبة فريدة من نوعها في نظر الدولة، ما حدا بالأخيرة إلى أن تضعه في موقعه الذي لا يليق بأحد سواه!، وأن لا سبيل له للعيش إلا بـ"وجهين"!.
واعترف لهم صراحة بمزاياه التي لا تدعو أي كائن عاقل ليفخر به وبعمله، وتساءل عن الدور المهم الذي كان من الممكن أن يلعبه في المستقبل، لولا الحدود التي وضعته في دائرة لا يجتازها من كانوا على شاكلته، فأي حظ من الدنيا ذلك الذي يناله معدوم الضمير.. ضحل الذكاء.. وضيق الأفق، سوى أن يصبح عساساً يجوب في الليل والنهار والأحلام لو أمكن، حتى يظفر بتقرير!.
ومن السذاجة التي يتمتع بها ذلك المخبر بلباس "مدرس"، أو بأي لباس آخر، أن يتصور خلال حديثه ونجواه ما يتصوره عادة رفاقه وأصحابه في جهاز العسس عموما، أي أنهم بارعون في مهنتهم ويجيدون التخفي عن أعين الجماهير العريضة بحرفية وجودة عالية، بل لا يعلى عليها أبدا!.
أي موقف هو أشد حرجا من زرع مخبر جاهل وسط طلاب يدرسون الأدب العربي بالذات!
وأذكر في ذلك قصة طريفة رواها لي أحد أقاربي عندما كان طالبا بجامعة البعث في حمص، وقد كان آنذاك مقيما في السكن الجامعي. وهي أن قريبي ومعه رفاقه في الغرفة المهيأة لعدد محدود من الطلاب، كانوا يعانون من مأزق غريب وسخيف في آن، وهو إقناع أحد المخبرين بأنه مفضوح مكشوف بالنسبة لهم منذ اليوم الأول الذي حشر فيه بينهم، وضيق عليهم عيشهم بثقل دمه وسماجته وغبائه، بالإضافة إلى أذنه المشدودة نحوهم وكأنهم لم يلاحظوا بتاتاً بلاهته الواضحة، وتعمده استراق السمع بتلك الهيئة البدائية المضحكة.
لم يكن هذا الطالب المخبر طالبا بالمعنى الحرفي للكلمة، وعلم قريبي وزملاؤه في السكن ذلك مباشرة كما ذكرنا سابقا، فالرجل كان جاهلا أميا ولا يمت للتفكير حتى بأي صلة، ومهمته كانت واضحة جلية لا ريب فيها، وإلا لما تم زرعه وأمثاله في غرف الحرم الجامعي بلبوس طلاب علم، يقيمون مع الآخرين ويتنزهون في الأروقة ويحضرون حصة أو اثنتين بالأكثر في كل فصل، وحين تسألهم شيئا عن اختصاصهم المزيف، يتهربون من الإجابة ومن السائل بخيلاء وأنفة.. فيا للنباهة ويا للسرية!.
ومن باب التندر والإشفاق على كائن من هذا النوع، عبر قريبي ورفاقه عن حزنهم على ذلك المخلوق البائس، لو أراد يوما ما أن يرفع تقريرا بهم أو بغيرهم إلى مرؤوسيه، فهل سيرفعه مكتوبا أم مسجلا؟! واحتاروا في الأمر حقا آخذين بالاعتبار ما يتصف به الرجل من عيوب ومساوئ في الفهم والإدراك والتخطيط، فقد تم زجه في موقف حرج لا طاقة له به، وأي موقف هو أشد حرجا من زرع مخبر جاهل وسط طلاب يدرسون الأدب العربي بالذات!.
إلى أن تشجع أحد الطلبة عارضا التبرع بنفسه لإعداد التقرير كتابة وشذبا وتنقيحا لوجه الله تعالى! على أن يكون موضوعه الأساسي هو الشكوى من سلك المخبرين عموما، والرجاء الحار ممن يهمه الأمر في المراتب العليا، أن يعنى بهؤلاء المساكين ويراعي ظروفهم ويختص بتدريبهم وصقل مواهبهم الأمنية، حتى يصبحوا عسسا أكفاء، بدلا من نشرهم كالحمقى يخيفون السياح ويضحك الناس عليهم ويحطون من قدرهم في الطالع والنازل!.
وبالعودة إلى المدرس الشاكي الذي استفتحت به هذه المادة، إنما أردت من خلاله أن أشير مجددا بالبنان على مشكلة كبيرة مستعصية، لا نعاني منها في سورية فقط، بل في البلاد العربية قاطبة، وقد قيل فيها وعنها الكثير في الفن والأدب والصحافة، ولا زالت متداولة الحديث بين الناس في الجهر والخفاء حتى يومنا هذا، ولو كتب لـ"الماغوط" أن يبقى حيا، لما وسعته أوراق الدنيا بأسرها وهو آخذ بها لعنا وتنكيتا ولكن.. دون جدوى..!
يكفي أن يمر المرء بشكل عابر على الصور المسربة لضحايا المعتقلات، أو أن يسمع من أحد الناجين ما يحصل في الغرف العفنة الضيقة، حتى يدرك حجم الخطورة الكامنة في ورقة خطها ذاك الجاهل الأمي ليرضي بها رؤساءه، أو لمجرد أن يشفي غليله من ضحاياه بغية الانتقام منهم فقط، ولأسباب تتراوح ما بين التافه والمهم، لكنها لا تبرر أبدا جرّ العشرات إلى حتفهم بتلك الصورة المرعبة حقا.
وفي كتابه "حديقة الإنسان"، يحكي لنا الشاعر العراقي أحمد مطر ضمن قصة قصيرة جدا، وبليغة جدا، أنه ورغم كل شيء، فالأمن مستتب ولا داعي للخوف أبدا، والدليل هو ما حدث مع مخبر آخر مسكين أودى بنفسه وبغيره إلى التهلكة، وهذا نصها:
الزقاق مكتظ بالمخبرين والبيت ممتلئ بالمخبرين.. فكر في كيفية الخروج.. قرر أن يصعد إلى السطح، وأن يقفز إلى سطح الجيران.. صعد، فطوقه جيرانه المخبرون.. رمى بنفسه إلى الزقاق.. سقط فوق مجموعة من المخبرين. تناقل المخبرون في المدينة خبر الفاجعة التي أودت بحياة خمسة مخبرين كانوا يؤدون واجبهم، إضافة إلى المخبر الخائن المنتحر. اقتادت قوة من المخبرين ثلاثة مخبرين من أهل المخبر المنتحر، كان تقريره قد أكد خيانتهم، فيما بقي أفراد قوة المخبرين القابضة ينتظرون بأمل فرصة القبض عليهم بناء على تقارير المخبرين الآخرين. وكما تنتهي أغلب الأفلام بميلاد طفل كرمز للأمل في البقاء والتواصل، يسرنا هنا أن نؤكد للجماهير المتطلعة إلى غد مشرق سعيد أن مخبرة من أهل الزقاق، وهي لحسن الحظ حامل في شهرها الأخير، شعرت بآلام المخاض، ولم تلبث أن انطلقت من بين فخذيها صرخة تقرير مؤنث!. صاح المخبر الفرحان بمولودته الأولى: نسميها وشاية!.