الاحتلال يقتل... حتى أساتذتنا الجامعيين
نعيشُ في قطاع غزّة حصارًا منذ عام 2007؛ وقد ساهم ذلك في خلقِ مشكلاتٍ عميقة في بنيةِ النظام السياسي الفلسطيني؛ فصارَ القطاع معزولًا عن الجسد الفلسطيني السياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ الكامل بشكل تقريبي، وبالتالي لم يكن قطاع غزّة حرَّ الحركة والتنقل، فكان الحدث الذي ترتّب عليه حبس أكثر من مليون ونصف فلسطينيّ في قطاع غزّة، لتغدو مفردة "السفر" لأي شاب غزّي شبه مستحيلة.
مع ذلك، لم يستسلم الشاب الغزّي، حيث اتّخذ من العلم ملاذًا آمنًا في ظلِّ الخناق المشدَّد. لكن الآن، وبعد تدميرِ الجامعات والبنية التعليميّة في القطاع، باتَ الملاذ الآمن في خبر كان، حيث نُسِفت كلّ مرفقات الحياة في القطاع، ولا أعرف كيف سيكون شكل الحياة لاحقًا، لتتوالى الأسئلة تلو الأخرى: أين سنسكن؟ وهل ستُستأنف الدراسة؟ وأين سندرس؟
كما أنّه من الصعب جدًا، حاليًا، جعل الدراسة عن بعد، في ظلّ تعطل شبكات الإنترنت، وعدم وجود الكهرباء والمسكن. وبالتالي، لن يتمكن معظم طلبة القطاع من متابعةِ العملية التعليمية، سواء أكانت الدراسة نظامية عن طريق البرامج التعليميّة الداعمة إلكترونيًا أم حتى عن طريق المبادرة التي وجّهتها جامعات الضفة الغربية لطلبة القطاع بصفتهم طلبة زائرين.
وعليه؛ فإنّ خيارَ العودة للدراسة وجاهيًا أفضل بمائة مرّة، حتى ولو من فوق ركام الجامعات المدمرة. ولكن متى ستنتهي الحرب؟
أكتبُ هنا لأعزّي الغزيين كلّهم، وزملاء الدراسة، وأساتذتي، وكلّ الصحافيين الأحرار في الميدان. هذا العزاء الكبير لا ينتهي، بعد أكثر من 230 يومًا على الإبادة في قطاع غزّة. وأنا أحاول أن أفهم الحرب ومسوّغاتها، أن أحلّل الأحداث والقصص، أن أفكّ عن حسرتي قيودها وأكتب، الكتابة عن الألم ليست تمرينًا على التشافي وحسب، بل تسجيل للشعور الإنساني بالآخر، وهذا ما منعني لأيامٍ طويلة منذ بداية العدوان على القطاع من الكتابة.
الكتابة عن الألم ليست تمرينًا على التشافي وحسب، بل تسجيل للشعور الإنساني بالآخر
اليوم؛ وبعد مرور أشهر من العدوان؛ صار قطاع غزّة "سجنًا بلا سقف"، مغلقًا من النواحي كافة، سواء أمام القطاع الصناعي أو التجاري أو في حركة الذهاب والإياب من القطاع وإليه، إضافة إلى منع دخول المواد الأولية والخام، وكذلك المواد الغذائية ومواد البناء والسلع الأساسية وغير الأساسية، بالإضافة إلى انقطاع التيار الكهربائي وشحّ المياه، ممّا فاقم من حالةِ الفقر وسوء التغذية وسوء الخدمات الصحية وتدمير كلّ عوامل البقاء الاقتصادي والإنساني، بالإضافة إلى انهيار القطاع التعليمي برمّته؛ إذ يمثّل استهداف التعليم نسفًا لكلّ قواعد المجتمع، فالمؤسّسات التعليمية والبحثية والأكاديمية جزء أساسي من المنظومة المجتمعية. وعليه؛ فإنّ تدمير إسرائيل للجامعات في القطاع ليس تدميرًا للمباني وحسب، بل هو في جوهره محو لكلّ ما هو متعلّق بالوجود الفلسطيني.
وبالرغم من الحياة في ظلّ هذا الحصار على القطاع، تمكنت الجامعات في غزّة من تحقيق التطوّر الأكاديمي وكذلك العمراني. بل واستطاعت أن تفتح الأفق لطلبتها بأحدث الأقسام العلمية والتقنية، كما واستطاعت دخول المنافسة مع الجامعات الأخرى على المستوى الدولي؛ كالجامعة الإسلامية، والتي استطاعت أن تحصل في العام 2018 على المرتبة الأولى فلسطينيًا والتاسعة والعشرين عربيًا وفق تصنيف يوني رانك العالمي.
لقد اغتالت إسرائيل منذ شنّ عدوانها على القطاع مائة من العلماء والباحثين والأكاديميين والأساتذة الجامعيين ممن يحملون درجتي الماجستير والدكتوراه، وكذلك الأستاذية كرئيس الجامعة الإسلامية الأستاذ الدكتور سفيان تايه، والذي صُنِّف في العام 2021 ضمن أفضل 2% من الباحثين حول العالم. كما واستهدفت الأكاديمي والكاتب والشاعر ابن مخيم جباليا، رفعت العرير، إذ يُطلق عليه البعض لقب رائد اللغة الإنكليزية، والذي شارك في تأسيس مشروع "نحن لسنا أرقامًا"، حيث هدف من خلاله إلى طرح معاناة الغزيين في أعقاب الحرب الإسرائيلية عام 2023، وكذلك عميد كلية الشريعة والقانون الأستاذ الدكتور سالم أبو مخدة. رحم الله كلّ من علمنا حرفًا، وإنّه لغيابٌ طويل يعزّ علينا، يعزّ علينا كثيرًا ونحن أبناء هذا الصرح الأكاديمي العريق.
مثّل استهداف التعليم نسفًا لكلّ قواعد المجتمع، لأنّ المؤسسات التعليمية والبحثية والأكاديمية جزء أساسي من المنظومة المجتمعية
وَأَدت إسرائيل الحياة الأكاديمية لحوالي ربع مليون طالب عبر استراتيجية مُمنهجة؛ إذ لم تكن حرب إسرائيل على العقول فقط، وإنّما قامت بتحويل جميع جامعات القطاع إلى كومةٍ من الركام للجامعات الست في غزّة، وهي الجامعة الإسلامية وجامعة الأقصى وجامعة الأزهر وجامعة القدس المفتوحة وجامعة غزّة.
في نهاية المطاف؛ كُتب علينا أن نكون من البقعةِ الجغرافية الحزينة تلك، والتي رغم أحزانها جميلة، وعليه فنحن مضطرون للتعايش؛ لم يتبق لنا أيّ خيار آخر سوى أن نكمل الرحلة، وعلى الرغم من الألم الذي يُرافقنا، إلا أنّه يمكن أن نسمح للحرب بأن تلعب دورها في تشكيلنا قليلاً، وفي تسميك جلدنا وإعادةِ خلق فرصنا؛ لأنّا من حزب النمل، من حزب قشة الغريق نتشبّث بها ولا نفلتها، فإن قضت علينا نموت كالشجر واقفين، ونحن نُنجز أمرين كلاهما جميل: شرف المحاولة وخبرات ثمينة.
طوبى لنا.. نحن الغزّيين.