الثورية المنسية وتيار الوعي النسوي
كتبت ربيكا بولر مقالاً بعنوان "دوروثي ريتشاردسون.. الثورية المنسية"، تحاول فيه أن تستعيد مكانة ريتشاردسون ودورها في خلق تكنيك "تيار الوعي" في الرواية الحديثة. يعود اختراع مفهوم تيار الوعي، بالطبع، إلى عالم النفس الأميركي وليم جيمس، وتمّ استخدامه في الرواية على يد الكاتب الأيرلندي جيمس جويس (في "أوليس" خاصة)، والكاتبة البريطانية فرجينيا وولف (في "السيدة دالاوي والفنار")، والكاتب الأميركي وليم فوكنر (في "الصخب والعنف"). ولكن كانت دوروثي ميلر ريتشاردسون، المولودة في مايو/ أيار 1873 وتوفيت في يونيو/ حزيران 1957، قد سبقتهم جميعاً، ونشرت الجزء الأول من رواياتها "رحلة الحج"، بدءًا من سنة 1915 حتى الجزء الثاني عشر والأخير في عام 1938. وقد علّقت ريتشاردسون على هذا العمل الضخم بقولها: "حاولت كاتبة هذه السطور (وهي تعتزم أن تكتب رواية)، أن تبحث حولها عن نموذج معاصر بالاختيار بين اتْباع أحد زملائها وبين محاولة تقديم معادل نسائي لتيار الواقعية عند الرجال".
لقد أرادت دوروثي أن تقدم طريقاً آخر بديلاً عن الواقعية عند الرجال، فوجدت ضالتها في تكتيكات تيار الوعي، وهو ما أظهرته في رواية "رحلة الحج"، وهي سيرة ذاتية نفسية لامرأة جذابة، تدعى مريام هندرسون، وتعيش مستقلة ولديها حسّ صوفي، وتتنقل في أعمال وأشغال وبلدان متنوعة. فهي مربّية، ومدرّسة، ومساعدة لطبيب أسنان، وتقوم ببعض الأعمال الكتابية، وتتنقل بين إنكلترا وألمانيا، ولطالما لجأت دوروثي في تقديم حياتها إلى تكنيك اللقطات السينمائية، ممّا وفر لها وسائل ناجحة في استعراض أفكار ومشاعر هندرسون. ورغم ضخامة العمل، وهو ما يؤخذ عليها، إلا أنّها نجحت في تقديم طريقة مبتكرة في السرد الروائي لتمثيل أصوات ومشاعر النساء. لقد قامت بتقديم الحياة اليومية كما تعيشها النساء: من حق الاقتراع، إلى الأسئلة الخاصة بالتطور والاشتراكية... كلّ ذلك في سرد نسوي مبتكر.
ويرى النقاد أنّ رواية "رحلة الحج" هي بمثابة رحلة الفنان للتعرّف إلى ذاته، رحلة للكشف، هو بحث مريام الدائم عن جنة صغيرة ملوّنة. فهي رحلة صوفية ورمزية، بما تملك من شيء مقدّس، موزّع هنا وهناك، في جنبات العمل الضخم.
لعبت دوروثي دوراً هاماً في ظهور طريق حداثي جديد وتكنيك سردي مغاير لما كان يتبعه الروائيون الرجال في ذلك العصر
وتعترف فرجينيا وولف بأن: "حواس اللمس والبصر والسمع عند ريتشاردسون حادة للغاية"، ويقول روبرت جيفري، في كتابه "تيار الوعي في الرواية الحديثة، ترجمة محمود الربيعي": إن "دوروثي تستحق الثناء باعتبارها رائدة اتجاه روائي أكثر من كونها مؤلفة قصص ناجحة. وما يدل على ذلك هو صفحاتها الأولى من الرواية، والتي تدل على مسعاها إلى ارتياد طريق جديد، إنها في مغامرة مفعمة بالبحث".
ذكرت ريتشاردسون في تمهيد روايتها ما يمكن أن نعتبره شهادة لها حول تيار الوعي: "وفي أثناء ذلك تحوّل الطريق الموحش إلى باب رئيسي عام: إحداهما امرأة امتطت حصان حرب ضخما، والأخرى رجل يمشي في خشوع وعيناه مسبلتان، وهو مذهول، إذ يمشي، حلّة ثمينة من الكلمات الجديدة التي يكسو بها أشواقه القديمة القاتمة". ويعلّق جيفري هنا: "نحن نفهم من ذلك أنّ المرأة هي فرجينيا وولف، وأنّ الرجل، وهو موصوف على نحو أكثر دقة، هو جيمس جويس".
في عام 2020 قدمت مطبعة جامعة كامبريدج كتاباً يعدّ من أهم الكتب التي صدرت عن دوروثي، بعنوان: "دوروثي ريتشاردسون: رحلة حج شخصية"، وقد حررته جلوريا جيلك، التي ذهبت إلى الأرشيف العائلي والوطني الذي يضمّ وثائق هامة وشخصية لدوروثي، بالإضافة إلى العديد من الدراسات النقدية التي ظهرت في محاولة لتقييم الدور الهام الذي لعبته دوروثي في ظهور طريق حداثي جديد وتكنيك سردي مغاير لما كان يتبعه الروائيون الرجال في ذلك العصر.