الحاضنة الاجتماعية للمقاومة: سؤال حول جدلية الصمود

14 أكتوبر 2024
+ الخط -

ربّما تمتد الحرب لسنوات قادمة بحيث تشهد المنطقة تغيّرات اجتماعية واقتصادية وسياسية في وتيرةٍ متسارعة نحو اللانهاية كما يبدو الأمر الآن، لكن النهاية الحتمية تقتضي أن يزول كيان الاحتلال الإسرائيلي، الذي دخل الحرب التوسّعية متخذًا أهدافًا أولية في القضاء على المقاومة في فلسطين ولبنان واليمن وسورية ثم العراق، فإيران في المحصلة، ضمن استراتيجية عسكرية تبدأ بالقضاء على التهديد الأمني الأقرب.

إنّ الحركة الصهيونية تعمل ضمن استراتيجيات سياسية عسكرية مدروسة ومعقدة لتحقيق رؤيتها الإمبريالية، بينما تعتمد المقاومة في ديناميكيات عملها العسكري على الصمود، أولًا وأخيرًا. والصمود ليس مسألة محصورة في ميدان القتال فقط، إنّما في الخطط العسكرية التي تشف عن تمسّك المقاومة بأرضها، لأنّه رأسمالها الأكبر الذي يضمن لها بيئةً مناسبة للتشكّل والتلوّن في مساحاتٍ صغيرة، وإنّ هذا التشكّل المقاوم في مساحةٍ صغيرة يكثّف من قوّة المقاومة. وعلى العكس من ذلك، قد تتراجع القوّة العسكرية في الحروب الواقعة على رقعةٍ جغرافيةٍ واسعة، ولا يعني ذلك أنّ المقاومة ستظل محصورة في قطاع غزّة وجنوب لبنان، إنّما قد تصبح البيئة الحاضنة للمقاومة غير مناسبة لاستكمال الخطط العسكرية المستحدثة فيما بعد، ونحن هنا نتحدث عن حركة مقاومة أثبتت جدارتها في قطاع غزّة، وفي حال استلزم المقاومة أن تغيّر بيئتها الحاضنة من قطاع غزّة والانتقال إلى الضفة، فليس ذلك ببعيد، فربّما تكون الحاضنة القادمة للمقاومة في قلب رام الله.

فلنتطرق الآن إلى مستوى القوة التي تؤول إليها الحركة الصهيونية في هذا العهد الجديد، أقصد ما بعد الحرب الأوكرانية الروسية، التي تحسم بداية النهاية لعهد الحركة الصهيونية التي استعمرت الكون لقرن ونيّف من الزمان، في ظلّ انهيار النظام العالمي الأميركي المُحتكر للقوة المستمدة من موارد الشعوب المقهورة ومقدراتها.

يعيش هذا الأخطبوط الصهيوني في آخر مراحله، يبثّ آخر ما تبقى لديه من سمّه القاتل. إنّ هذا الجبروت له نهاية حتمية تؤكدها الأدلة والبراهين المنكشفة بعد الحرب الروسية الأوكرانية، مستتبعة بحرب 7 أكتوبر، لذا أصبح لأميركا ندّان واضحان هما روسيا وإيران، بينما تُرجأ الندّية الصامتة الثقيلة المتوقعة من الصين، هذا الندّ الذي لا نعلم عن قدراته الشرسة إلا ما أرادت الصين إظهاره لعدوها وللعالم، لكن يلفتنا أن الصين ثبتت عملتها النقدية عملةَ تداولٍ عالمية، حيث اعتمدت بعض الدول مثل الأرجنتين على اليوان الصيني في المعاملات الاقتصادية الخارجية بدلًا من الدولار، وهذا يشكل متنفّسًا للدول المختنقة من استنزاف احتياطاتها في تداول العملات الصعبة مثل الدولار واليورو.

الدولار الأميركي العملة العالمية الصعبة التي ساهمت في تشكل الطبقات الرأسمالية في العالم، وكان الاحتكار أهم لعبة من ألعاب الهيمنة العالمية لأميركا، لذا من السهل القول إن الدول العظمى المهيمنة مثل روسيا والصين ستكسر هذا الاحتكار الأميركي مودّعة حقبة رأسمالية صهيونية عنصرية، ومشكّلة معسكرًا سياسيًّا عالميًّا جديدًا على أنقاض الشيوعية العائدة قويةً وبحلّة جديدة في العقود القادمة، من خلال التبادل الاقتصادي بين الدول، وتشكيل تحالفات عسكرية دولية ستدع حلف الناتو خلف ظهرها!

وهذا يعني أن دخول روسيا وإيران أيضًا في حرب إقليمية قد تتمدد لتصبح عالمية، يعني أن الدولتين أعدتا العدة وقدّرتا كل الحسابات والثمن والنتائج الدقيقة المتوقعة لهذه الحروب وشكلتا تحالفًا مع دول وتنظيمات سياسية عربية تسعى للخلاص والتحرر من الاستعمار الصهيوني، الذي ظل طوال سبعين عامًا متقوقعًا في الأرض الفلسطينية المحتلة ولم يتمدد إلى أبعد من ذلك، لذا فمن المثير للهزل عندما نستمع إلى أحلام القادة الإسرائيليين مثل سموتريتش وبن غفير في تحقيق مشروع الدولة اليهودية من النيل إلى الفرات، لماذا فطن هؤلاء القادة لفكرة الدولة اليهودية بعد حرب 7 أكتوبر وقد كان الزمان بين يديْ إسرائيل، لكن لم يكن المكان كله بين يديها، وهذا بالطبع بسبب العمل المقاوم، والحقيقة الصهيونية المتضاربة في داخلها حول مسألة شرعية الاستيطان والإحلال الاستيطاني بناء على وعود توراتية سخيفة عملوا على تحقيقها بكل الوسائل المخالفة للشرائع والأنظمة والقوانين البشرية.

وبلا شك لن تتنازل الصين عن تايوان محررة من الاستعمار الأميركي. إذن إن كل المعطيات في زمن الانكشاف تؤشر أنه إذا كان من بد الصعود للقوى العالمية الجديدة فيجب تقزيم النظام الرأسمالي العالمي، بل تقطيع أيدي الأخطبوط التي توجد فيها الأدمغة الفرعية الثمانية، ليتبقى للأخطبوط دماغه المركزي الداهية لينشغل بشؤونه الداخلية، بعد أن كانت أدمغته الثمانية قادرة على التفكير والتدبير بشكل منفصل عن الدماغ المركزي بحسب الحاجة، إنه التشبيه الذي وجدته مناسبًا للنظام الأميركي الصهيوني، وماذا ينفع هذا النظام عبقريته بعد أن يفقد كل أدوات الهيمنة؟

تانيا كرجة
تانيا كرجة
باحثة وكاتبة في مجال الفلسفة وعلم النفس، والقضايا الجندرية، خريجة ماجستير علم النفس المجتمعي من جامعة بيرزيت.