حرب نزع المعنى: ما وراء حرب الوجود
بينما يقوم الإعلام بنقل أحداث الحرب والإبادة الجماعية وأحلام الاسرائيليين بمحاولات تهجير الفلسطينيين إلى الجنوب، ومن الجنوب إلى سيناء مستقبلًا، تتشكّل قراءة تحليلية نفسية لما وراء الأحداث، أستعرضها في هذا المقال.
كغيري من الفلسطينبين في الضفة، أتابع الأحداث عن كثب، وبدوافع الألم ليس إلّا، راجية أن تحقّق المقاومة مرماها، أينما كانت فوق الأرض وتحتها.
لقد كُتب الكثير عن الذات والمجتمع في بيئة الحرب، لكنّني أودّ أن أحلّل ظاهرة متفرّدة بذاتها لما لها من خصوصية وظروف تجعلها بهذا التفرّد.
لقد استطاعت العصابات الصهيونية في العام 1948 أن تهجّر الفلسطينيين قسرّا إلى داخل فلسطين وخارجها في الدول المجاورة. ولكي تتمكن سلطات الاحتلال من ضمان عدم عودة اللاجئين إلى بيوتهم وأملاكهم التي خلفوها وراءهم على أمل العودة المحقة، قام مجلس الأمن التابع لهيئة الأمم المتحدة باتخاذ قرار فوري في العام التالي، أي العام 1949، بتشكيل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا)، فباشرت الوكالة بحصر وتسجيل أسماء اللاجئين وتوزيعهم بحيث لا يكونون كتلة واحدة مجتمعة في منطقة واحدة، فجعلتهم في مخيّمات متفرقة متباعدة في المسافات، بحيث لا تتمركز في المدن ولا تقترب من القرى. وما أعطى هذه القوة والصلاحية في التدخل في تشكيل المخيّمات الفلسطينية، أنّ الأرض ليست ملكًا لأونروا، وقد استأجرتها ضمن عقود يجرى تمديدها كلّ فترة، بالتزامن مع تجديد فترة وكالة أونروا من مجلس الأمن، وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ هناك مخيّمات فلسطينية لم يجرى تسجيلها والاعتراف بها من أونروا لغاية اليوم.
وكوني أجريت دراسة الماجستير حول مسألة الأثر النفسي والمادي لتشكّل سياسات الإخضاع في المخيّمات الفلسطينية كفضاءات هيتيروتوبية، أودّ أن أحلّل مسألة محاولة تهجير الفلسطينيين من قطاع غزّة ضمن خطة نكبة جديدة ترمي إليها إسرائيل، التي تعتقد، حكومةً وشعبًا، أنّ نكبة العام 1948 نجحت بمجازر التهجير العرقي، وبتشكيل فوري لوكالة أونروا التي ساعدت على تثبيت الخيام. والهيتيروتوبيا تعني الفضاء الآخر النقيض لليوتوبيا، وتعني اليوتوبيا الفضاء المثالي الذي يعيش فيه أصحاب القوة والسلطة بعد تشكيل فضاء هيتيري للآخر المختلف، الذي ترفضه شروط ما بعد الحداثة وأصحاب المصالح الرأسمالية، على اعتبار أنّ وجود الآخر يشكّل إزعاجًا وتهديدًا لمصالحه المنتعشة بالاستعمار التوّسعي، فيلزم عزل ونبذ هذا الآخر وجعله في فضاءات وشروط عيش صعبة تهدف إلى نزع المعنى والجوهر منه، واعتبار أنّ مصالحه هي الجوهر، وهي عماد الحياة.
المقاومة ثقافة لخلق معنى إنساني جوهراني وثابت بدل معاني الانتظار وعدم الاستقرار ونزع المعنى الذي يمارسه الاستعمار في المخيّم كفضاء يتشكّل من أجل الإنتظار غير المأمول بالعودة
وحسب الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، فإنّ هناك مبادئ لتشكل الهيتيروتوبيا، أهمها مبدأ ينص على شَرطية الوجود، أي أنّ تشكيل الهيتيرتوبيا يأتي الهدف الأساسي منه تحقيق فضاءات أخرى تبقى وتدوم، لذا إنّ الهدف الماورائي لتشكيل المخيّم هو استقواء الهوية الاجتماعية الصهيونية على الفلسطينيين الذين جرى تهجيرهم في أماكن تصنّفهم كفائضين عن البشرية.
وخلف كلّ فضاء يوتوبي، يوجد فضاء هيتيري تُمارس السلطة/ القوة عليه سياسات الإخضاع التي تهدف إلى جعل الإنسان الآخر منبوذاً ومنزوعاً من القيمة التي تحدّدها معايير السلطة، فيتراكم الصراع بين السلطة والمنبوذ، الذي يسعى لإثبات ذاته والاعتراف بها في المرحلة الأولى، أمّا في المراحل المتقدمة إذا لم تعترف السلطة بالمنبوذ، فتترتب على ذلك عدة نقاط وهي:
(1): الصمود النفسي والمادي.
(2): المقاومة على عدّة مستويات، التي تكون التضحية والاندفاع نحو الموت أعلى مستوياتها، من أجل استرداد الهوية الاجتماعية والسياسية، فتصبح المقاومة ثقافة لخلق معنى إنساني جوهراني وثابت بدل معاني الانتظار وعدم الاستقرار، ونزع المعنى الذي يمارسه الاستعمار في المخيّم كفضاء يتشكّل من أجل الانتظار غير المأمول بالعودة إلى الفضاء الأصلي الذي تهجّر منه الإنسان المنبوذ، الذي يُجبر على العيش في ظروف طارئة تساعده فقط على البقاء والانتظار. أمّا البقاء، فهو بقاء تحاول السلطة النابذة أن يكون بقاءً بلا معنى، أي أن يكون محصورًا فقط بالسعي اليومي الكادح بحثًا عن الطعام والماء والدواء في طوابير الانتظار، والتعامل مع المنبوذ من خلال بطاقة الغوث، فتصبح هذه البطاقة ذات معنى يشبه شهادة الميلاد أو بطاقة الهوية التي يستطيع من خلالها المنبوذ أن يتحرّك داخل المخيم، وأن تجرى مراقبته ومتابعته وتحديد تنقلاته ونشاطاته وتموضعه الاجتماعي خارج المخيم من خلال هذه البطاقة، كما حصل في تشكيل الهوية الفلسطينية للاجئين في مخيّمات لبنان، حيث جرى تحديد مجالات العمل والتنقل للاجئ الفلسطيني من خلال تعريفه لاجئاً خاضعاً لسلطة مكانية وزمانية طارئة تسمّى أونروا، أي إنه لم يعد يهم معنى أصل الفلسطيني وذكرياته وأملاكه وتراثه الثقافي والمادي، الذي مورست عليه سياسات شبيهة بالتطهير العرقي من خلال استبدال الهوية الثقافية ببطاقة الغوث، ليصبح إنساناً يعيش يومه، إنساناً بلا أمس وبلا غد!
تهدف سياسة الانتظار الطويل للاجئين في مخيمات اللجوء إلى تثبيت الإستعمار وإحلاله محل السكان الأصليين الفلسطينيين الذين تمّ تهجيرهم قسرًا
وعودة إلى نقطة الانتظار التي تعدّ أهم ركيزة لإنشاء المخيّمات، لكن هذا الانتظار يهدف بشكل ما ورائي جرى تداركه لاحقًا، يهدف نحو تثبيت الاستعمار وإحلاله محل السكان الأصليين الفلسطينيين الذين هُجّروا قسرًا.
ومن أجل تشكيل المخيّم وتجسيده مادّيا، هناك نموذج موّحد تتبعه أونروا لتشكيل نطاق مكاني بشروط طارئة تتعامل مع اللاجئين ككتلة واحدة تتشارك أجزائها المايكروفيزيائية (الأفراد، والمجموعات الإنسانية) في استخدام الموارد على نحو يضمن وصولها إلى الجميع وبمعايير وشروط تضعها الوكالة كمصدر غوث لهم، التي لاحقاً، وفيما بعد، أصبحت تعمل وكالةً للتشغيل من خلال إنشاء مراكز التدريب المهني والحرفي، وإعطاء الرواتب الشهرية الرمزية للعائلات التي تعاني من ظروف عوز شديد.
لقد كانت الوكالة في بداياتها تتعامل مع اللاجئين ككتلة واحدة من دون مراعاة وإحاطة بالظروف الشخصية للأفراد من مشاكل نفسية ومادية وصحية، عدا عن تقديمها خدمة التعليم، وكلّ هذا يصب في خطّة إشغال وإسكات اللاجئين، وجعلهم ينسون، بشكل تسلسلي، سدّ احتياجاتهم الأساسية تبعًا لهرم ماسلو، ما عدا تحقيق الأمن والأمان، فهذه مسألة لم يكن لأونروا أيّ علاقة بها، وإنّ نقص هذه الحاجة جعل من سكان المخيّم يسدّونها من خلال الصمود والمقاومة، بغضّ النظر عن شكل المقاومة الذي يختلف من مخيّم إلى آخر.
يحاول الاحتلال الإسرائيلي أن يعيد نفس سيناريو النكبة والتطهير العرقي ونزع المعنى الهويّاتي، لتشكيل لاجئ فلسطيني مجرّد من جوهره المقاوم والصامد، لتصبح ذاته مرتبطة بنكبة جديدة، بعد مرور عدّة أجيال على نكبة 1948، ليكون الفلسطيني ابن النكبات، وكأنّ ما قبل النكبة لا عودة إليه، في سيرورة يحاول تشكيل صياغتها التاريخية الاحتلال الصهيوني، الذي يسعى لأن يظلّ الفلسطيني في نطاق النكبة الكبرى، والنكبات اليومية التي تلاحق الفلسطيني في كلّ تفاصيله، لكن هذه النكبات الصغيرة تحرّر منها الفلسطينيون في قطاع غزّة منذ فك الارتباط في زمن حكم أرييل شارون، بالإضافة إلى التحرّر من شروط اتفاقية أوسلو.
يسعى الاحتلال لأن يظلّ الفلسطيني في نطاق النكبة الكبرى، والنكبات اليومية التي تلاحق الفلسطيني في كلّ تفاصيله
وقد قضت عملية فك الارتباط على الإسرائيليين بالانسحاب الكامل من غزّة وأنحائها وإعادة استيطانهم في مستوطنات موجودة في الداخل الفلسطيني المحتل، وتمديد المستوطنات في الضفة الغربية التي يعاني سكانها ومخيّماتها على نحو خاص من ظروف عيش قاهرة، تدفع الذات الفلسطينية إلى اتباع أساليب التحرّر بكافة مستوياتها، خصوصًا في قلعة مخيم جنين، وبلدة بيتا، وحارة الياسمينة في نابلس، ومخيم بلاطة في نابلس، ومخيم العروب في الخليل، حيث تمارس سلطات الاحتلال اجتياحات متكرّرة.
قد يبدو أنّ فضاءات اليوتوبيا الاستيطانية تستقوي بالدعم الأميركي والأوروبي اللذين يشكلان غطاءً للاحتلال من خلال تزعم مبادرات إنسانية، وتشكّل مؤسسات حقوق الإنسان والقانون الدولي، اللذان تشكّلا بالأصل لتطبيقهما في العالم الغربي وتنظيم العلاقات السياسية الدولية، فيما بين الأميركان والأوروبيين بعد حربين عالميتين في قرن كامل من المجازر والحروب، التي كانت آخرها حرب البوسنة والهرسك بعد إضعاف وشل الاتحاد السوفييتي. إلا أنّ هذا الغطاء الذي تتغطّى به المستوطنات ويمارسه الاحتلال تحت أنظار المجتمع الدولي الداعم للصهيونية، هذا المجتمع الذي يصرّ على تطبيع المجازر وإعطائها شرعية مكتسبة أصلًا من القانون الدولي المتنكر، والذي سيلاحق مجرمي الحرب بشكل مزعوم، دون إنفاذ أيّة عقوبات على الدولة المرتكبة للتطهير العرقي، ويكتفي القانون الدولي بمحاسبة أشخاص، وكأنّهم لم يكونوا جزءاً من دولة تمتلك قدرة التراجع عن سياسات اعتداء واستعمار وإحلال، لذا فإنّ محاسبة دولة الاحتلال في محكمة الجنايات الدولية تعني الحكم على دولة قامت على مجازر تطهير عرقي في العام 1948، وهو مسألة يجب بتّ الحكم فيها، لكن بتّ الحكم لا يزال عليه شهادات وشهود وسجلات موّثقة، قد تنصف اللاجئين بعودتهم من المخيمات إلى أراضي أسلافهم الذين تركوا وراءهم مفاتيح الأبواب والكواشين العثمانية والفلسطينية، والتي يومًا ما ستكون محامي الدفاع الأول في قضية أصحاب الحق الوجودي، وأصحاب المعنى الحقيقي أمام كلّ زيف هذه الحداثة الملطخة بدم الأطفال والأبرياء الفلسطينيين.