الحرب في الشارع الخلفي لبيتنا
ذاكرة الحرب، ذاكرة متعنتة، طاردة لتفاصيلنا اللاحقة حين ظننا لوهلة أننا قد نجونا. ليست للحرب حدود جغرافية فاصلة، حاضرة معنا وبيننا وكأنها تعبث قريباً منا، تماماً في الشارع الخلفي لبيتنا! وبيتنا مصاب بالحرب، مريض بها وعاجز عن الاستشفاء، وكلما سنحت الفرصة لاستراحة قصيرة، تشنجت الحرب وأعادت نفث سمومها، مصرة على أن تعلن أن المعركة بيننا طويلة وحاسمة، ولا بد أننا القتلى ولو بأسماء جيراننا، أشقائنا، وشركائنا في المساحة وفي الهم وفي البلوى.
الأكثر رعباً وإمعاناً في التهديد والوعيد بخرابنا الفعلي هو صوت الحرب وصوره عبر البشر الواقعين في هذه اللحظة تحت لظى نيرانها، في محيط هجماتها وفي المدى المنظور للهدم والدمار والبارود.
طوال ثلاثة عشر عاماً ردد السوريون والسوريات أن حربنا (غير) وموتنا أيضاً (غير)! لنكتشف فجأة بإطلالة قسرية ومرعبة على الفناء الخلفي لبيوتنا أن الموت هو الموت، وحكايات الموت وصوره راسخة في الذاكرة، في الوجدان، في البال المكسور وفي الأحلام المسفوك دمها بوحشية مقصودة وحريفة، كما يجري حاليا بشكل يومي وبتفاصيل يختلف توقيتها وأسماء ضحاياها لا غير.
قال شاب لأمه على الهاتف: أنا من ربتني الحرب ولم أتمتع بأن تربيني كما كنا نشتهي، أنا ابن الحرب المفروض عليه أن يكون ابنا لحياة هادرة مليئة بالشغل وبالأوراق والمعاملات وبالأسئلة وبالترتيب لحياة جديدة! يبدو الانتقال من أتون الحرب حتى إلى الشارع الخلفي وكأنه معركة جديدة ومستعرة لا بد من خوضها مع الحياة الجديدة التي ترهبنا حتى بلغتها وبأسئلتها وبهيمنة الحياة النابضة فيها، يبدو الانتقال وكأنه هرب من الموت الحقيقي إلى حياة حقيقية! إنه إحدى الصدمات الوجودية التي تحتاج لمن يأخذ بيدنا أو إننا حكما سنكون عميقا في الأودية السحيقة.
تحضر المقارنة بشدة، تخيلوا المقارنة بين حربين في مساحة واحدة، كتبت شابة لبنانية على صفحتها منشورا مبكيا بكل معنى الكلمة، يبدو المنشور القصير تهكميا أو ساخرا، لكنه في العمق مرير إلى درجة تعادل حربا كاملة (لما صارت الحرب بسوريا ألمانيا فتحت بوابها للهجرة واللجوء ونحنا اليوم ما حدا فتح بوابه قدامنا غير النجف)!
صديقتي السورية المقيمة في الضاحية أبدت سعادتها اليوم وهي تهاتفني قائلة: تخيلي لقد لجأنا إلى إحدى الثانويات ونعيش معاً في نفس القاعة مع أسرة لبنانية! وسعادتها هنا ليست بتأثير الأغنية الشهيرة (سوا ربينا)، وليس رداً على الاضطهاد الذي لحق بالسوريين من بعض العنصريين، بل هو تمثل حقيقي لقيم الحرب التي تجبر الجميع على تغيير معادلات وجودهم اليومي وتفرض تفاصيل مشتركة تخلخل الذاكرة السلبية والإيجابية، وتحول كل تبدل إلى سؤال بلا جواب، كما تحول كل استهجان إلى تقبل قسري، لا يملك أحد القدرة على توقع مدى انصهاره أو تحوله إلى نمط جديد من التعايش القسري التائه والغامض أيضا.
في الشارع الخلفي لبيتنا حروب طاحنة، بعضها مؤجل وبعضها عجز عن التأجيل، ونحن نحاول ملء الفراغات بصور متشابهة لها نفس المخالب والتفاصيل ذاتها، فقط لنثبت كم كنا ضحايا ووحدنا! والضحايا عاجزون عن التضامن بذات الأريحية التي يمتلكها من لم تصل إليه الحرب بنارها، يستفيق الفقد فجأة ويتجدد وكأنه حصل للتو، وبدلا من الهرب، نحضر الأغاني والصور والأدعية لملء شواغر الغياب الراحلين، وما الراحلون إلا شركاء راهنين في صرخة الألم وفي قوة الاستحضار.
نخوض حروباً داخلية لنكره الحرب في بيوتنا وفي شوارعنا الخلفية، لنمارس التعاطف، لنتدرب على الاستغناء عن مديح القوة القاتلة، وكأن الحروب تستولد الحروب بأوصاف ومعان جديدة، لكنها في العمق متأصلة بقوة النكران، وفي صلابة قواعد القوة الغاشمة التي تعلن كل لحظة أن الأقوياء فقط جديرون بالبقاء.