في رثاء خياراتنا
في بلادنا الكتاب خيارٌ مكلف، والكلفة الباهظة للكتاب لا تتعلق بقيمته المادية فقط، بل بكونه خيارًا شخصيًّا أولًا وآخرًا، وهذا الخيار يفرض تصنيفًا محددًا من الغير وسلوكًا خاصًا من محبي الكتب، من القارئين النهمين للقراءة، من الباحثين، من الراغبين في المعرفة، من الأشخاص الذين يتحكمون في أوقاتهم ويقضونها بالقراءة والكتابة والبحث، ويفرضون ذلك على غيرهم وعلى أنفسهم قبل الجميع.
في يوم السادس عشر من هذا الشهر تم وبقرار رسمي إزالة بسطات الكتب والتي تحتوي الكتب القديمة والحديثة، والحديثة هنا نوعان: لم تُقرأ مع أن نسختها أصلية، أو نسخ جديدة للعناوين أصلية لكنها منسوخة، أي مقرصنة، مما يعني أن الكتب في كل حالاتها موجودة هنا، لدرجة أن المكان تحول فعليًّا إلى المساحة شبه الوحيدة لبيع الكتب وتبادلها واقتنائها، تتركز هذه البسطات بأغلبيتها في الشارع الواصل بين شارع الحجاز وجسر الرئيس حيث تتركز أكبر بسطتين للكتب في دمشق كلها، وتعتبر النقطة الأكثر ازدحامًا في دمشق، وتمت الإزالة بصورة مفاجئة من دون إعلام مسبق ومن دون منح مهلة للمالكين بإزالتها بطريقة مقبولة مع هامش زمني وإمكانات مادية لتغطية عملية النقل المكلفة جدًّا، عدا عن عدم امتلاك أصحابها لمستودعات لحفظ هذه الكتب أيضًا لأنها تستقر ليل نهار هنا على رصيف الجسر.
تم ذلك كله بذريعة تجميل الموقع! أثار هذا الخبر حزن كل محبي الكتب وكل القرّاء وكل الذين يترددون إلى هذا المكان للحصول على كتب لم تعد متوفرة في المكتبات، عدا عن ارتفاع أسعار الكتب بصورة كبيرة تجعل غالبية محبي الكتب عاجزين عن شرائها.
لئن كان إغلاق أكبر مكتبات دمشق أمرًا واقعًا خاصة بعد إغلاق مكتبة نوبل قبل عامين، فإن حركة بيع الكتب شحيحة جدًّا وغالبًا ما تخضع لإلحاح الضرورة القصوى
ولئن كان إغلاق أكبر مكتبات دمشق أمرًا واقعًا خاصة بعد إغلاق مكتبة نوبل قبل عامين، فإن حركة بيع الكتب شحيحة جدًّا وغالبًا ما تخضع لإلحاح الضرورة القصوى مثل ضرورة العودة إلى بعض المراجع أو الرغبة العارمة في القراءة لمن اعتاد عليها واتخذها هواية أصيلة وطريقة حياة تخصه وحده وتميزه من الجميع حتى عن أهله. أثارت الحادثة المؤلمة والمفاجئة موجة واسعة من الغضب لدرجة أن الغالبية وصفوا الحادثة وكأنها عملية قتل للكتاب وإجهاض للقراءة واقتناء الكتب.
من الغريب بل من الصادم في الأمر أن يترافق هذا القرار مع المعرض السنوي للكتاب والذي يقام كل عام في أكبر مكتبة في سورية كلها وهي لا تبعد عن جسر الرئيس أكثر من كيلومتر واحد، وتجدر الإشارة إلى أن معرض هذا العام كسابقاته من المعارض لم يشهد حركة بيع في الحد الأدنى، بل لم يشهد حضورًا ولو للفرجة.
كانت السخرية المرة هي رد الفعل الأكثر انتشارًا، سخر المصدومون من عملية إزالة الكتب من عبارة "تجميل المكان" والمكان كله محاط بالخرائب وسقط المتاع والخردة والقمامة والكولبات الطارئة التي تبيع سقط المواد المبالغ في سوئها ورداءة صنعها وقباحة أشكالها.
بلغت السخرية حدها الأقصى حين أرفق أحدهم صورة لنهر بردى المتوقف عن الجريان والممتلئ بالقاذورات والجرذان، وهو النهر الخالد في ذاكرة الدمشقيين والذي يستدعي كل موت التطرق إلى إعادة إعلان موته أيضًا، إنه لأمر يسيل البكاء حين يجتمع موتان معًا: موت بردى الذي كان ماؤه يجري تحت بسطات الكتب وموت الكتب اليوم، بردى والكتب رحلا عن المكان بقوة الرحيل الموجعة والقرارات البليدة.
على صفحته، قال أحدهم: إن روح باريس والقاهرة وعدة مدن أخرى تنتعش وتتجمل ببسطات الكتب المستعملة، بينما في دمشق تُزال الكتب ليكتمل فناء المدينة. وذهب أحدهم بعيدًا ليعلن قراره باستعداده لإعارة كتب مكتبته لمن يحتاج أو يرغب في رد على مجزرة الكتب.
خياراتنا التي نسدد أثمانها غاليًا لا سبيل إليها إلا عبر الرثاء، صدق أحدهم حين قال: "هل رأيتم تجريف الكتب بالآليات؟ إنه استخدام كل شيء لتنمية عقل بحسب الحاجة".