الحمار و"مقدمة ابن خلدون"
كان سطل الزّبالة مليئاً بالكتب، كتب بمختلف الأحجام والألوان، بأغلفة ودون أغلفة، وبلغات مختلفة.
أوقف مَسْعُودْ "الكارّو" (العربة)، قرب الرّصيف، وهرول بخطوات واسعة إلى خلف سور نصف مهدوم على مقربة من الرّصيف الآخر المقابل، ليبول شبه متوارٍ عن الأنظار.
أدخل الحمار رأسه في السّطل، يحمل الكتاب بشفتيه ولسانه وَيَعْلِفُهْ.
حمل مسعود حجرًا بعد أن التفت، يمينًا ويسارًا، بخفَّةٍ لصّ، استجمر (من الجمر) كمن يشحذ سكِّينًا، ثم قذف الحجر كيفما اتّفق من خلف السّور في اتّجاه الشّارع. لم تكن تمرّ في تلك السّاعة من بعد الظّهر، أيّ سيّارة ليصطدم بها الحجر ويكسر زجاجها الأماميّ أو الجانبيّ. كان كلّ شيء ميِّتًا بالحرارة والتّقاعس والنّسيان. قرقعة الحجر فوق الأسفلت المحفّر، لم تلفت حتّى انتباه الحمار الذي كان يحمل الكتاب بتؤدة واطمئنان واضحين ويعلفه، مغمضاً عينيه من شدّة اللذّة.
مرقٌ كثير تشبّعت به الأوراق حتّى انتفخت ليتضاعف حجمها. مرقٌ لاذع يحفّز الشهيّة أكثر، ويُسيّل اللّعاب، ويُسهّل المضغ.
يبدو الكتاب في العادة ضخمًا جدًّا في يد طفل كسول، سوى أنّه يبدو الآن في فم الحمار، بحجم لقمة كُسْكُسٍ جيّدة فقط، لا أقلّ ولا أكثر.
خمس ثوان أو ستّ على الأكثر أو حتّى سبع، هي المدّة الكافية لعلف كتاب. قد يكون موسوعة طبّيّة، أو ديوان أشعار قديمة مقفّاة، أو مؤلَّفًا في فلسفة العلوم مترجمًا من الفرنسيّة إلى الإسبّانيّة، أو مرجعًا طلاَّبيًّا نادرًا في العلوم السّياسيّة، إلخ.
لكنّ الكتب في حقيقة الأمر هي الكتب، لا فرق يذكر بينها، خصوصًا حين تُصفّف في رفّ مكتبة، واحدًا جنب الآخر، أو تُكَوَّمُ داخل سطل.
دقيقتان كانتا كافيتين وزيادة، لأكل أحد عشر كتابًا، مع حساب استراحةٍ طولها ثانيتان أو حتّى ثلاث بين ازدراد كتاب وكتاب، يلتقط فيها الحمار أنفاسه، موسِّعًا منخاريه إلى أقصى حدّ.
لاحظ مسعود أنّ بقعة البول الكبيرة الّتي رسمها على السّور المتهالك قد أخذت تجفّ بسرعة بسبب الحرّ الشّديد، خصوصًا عند الجوانب. قصد "الكارّو" موسِّعًا خطواته أكثر عند "الشَّانْطِي" (الشارع)، تفاديًا لخطر سيّارة مسرعة قد تبزغ فجأة من مكان غير معلوم لتصدمه.
قرقعة الحجر فوق الإسفلت المحفّر، لم تلفت حتّى انتباه الحمار الذي كان يحمل الكتاب بتوءدة واطمئنان واضحين ويعلفه، مغمضًا عينيه من شدّة اللذّة
اعتلى "الكارّو" بخفّة رياضييّ الجمباز، فرّق رجليه كجرادة، متَّكِئًا فقط بربع ظهره الأسفل على ظهر الكرسيّ الجلديّ المزدوج الصّلب، الّذي كان في ما مضى كرسيًّا في حافلة قبل أن تحترق وتصل إلى مبنى المتلاشيات، ممسكًا جيِّدًا باللّجام، بينما وجهه وصدره إلى الأمام كمتسابق ينتظر إشارة الانطلاق.
رفع السّوط عاليًا حتَّى مسّ السّحاب، وَشَحَطَ به عنق الحمار، دون أن ينتبه إلى السّطل الكبير المركون جنب الرّصيف، ولا إلى الكتب البارزة من حافة السّطل، ولا إلى الأوراق المشتّتة في دائرة يصل شعاعها حتّى منتصف الشّارع.
تقدّم الحمار بصعوبة في البداية، ومجهودٍ مضاعفٍ، جارًّا "الكارّو" إلى وسط الشّارع. شَحَطَهُ مسعود شَحْطَةً ثانية حين لاحظ تباطؤه رغم مجهوده الظّاهر بارتفاع كتفيه قليلاً في الجرّ عكس رأسه الّذي كاد يلامس الأسفلت.
بعد خمس شَحَطَاتٍ بِالْمَسْوِيطَةِ (السوط) الّتي تصدر صوتًا في الرّيح كصفير الجنّ عند كلّ شَحْطَة، كان "الكاّرو" قد عاد إلى سرعته الطّبيعيّة أخيرًا بفعل التّسارع، الأمر الّذي منح الحمار فرصةَ أن يلتقط أنفاسه قليلاً، وأن يغشّ في الجرّ.
شَعَرَ مسعود بنسيمات عليلة تجفّف عَرَقَهُ وتبرّده، ففتح مزيدًا من أزرار قميصه الفضفاف المترب حتّى ظهرت شعيرات شعثاء كثيفة على بطنه تنزل في خطّ سميك كثّ عبر سرّته حتّى تدخل سرواله الْقَانْدْرِيسِيّ الواسع الّذي ينتهي ضيِّقًا لاصقاً، يكاد يتمزّق عند رَبْلتَيْ ساقيه. بدا صدره أحمر بشدّة في مركزه مع شعيرات صهباء كأشواك الْهَنْدِيَّة (التين الهندي) متفرّقة ومائعة بالعرق والغبار. وضع السّوط جنبه في وضعيّة معيّنة بحيث لا يسقط بسبب قرقعة "الكارّو" في الحُفر. تذكّر مقطعًا قصيرًا من أغنية دون أن يتذكّرها كاملة، اكتفى بترديد ذلك المقطع كلازمة، رافعًا عقيرته بالغناء في الشّارع الطّويل الفارغ، قبالة شمس حارقة، وسرابٍ بعيد.
كان الحمار قد احتفظ خلسة في فمه بغلاف كتاب "مقدّمة ابن خلدون"، الجلديّ السّميك، ليمضغه طوال الطّريق كعلكة، دون أن يبلعه، متسلِّيًا بين الفينة والأخرى بنفخه كبالون، وطرطقته، على إيقاع أغاني مسعود الشجيّة.