الخوذة... (قصة قصيرة)
الابتسامة الغائبة، كانت ولا تزال.
ظنت سلمى أن الذهاب إلى وجبة العشاء مع صديقاتها هذه الليلة فكرة سيئة، كانت تعاني من حزن شديد جراء حادثة السير التي راحت ضحيتها أختها الصغيرة.
هناك بجانب الباب، تقبع الدراجة النارية، محطمة، مكسورة، مفتتة، ظنت أن قيادتها بدون خوذة تعتبر مغامرة جريئة، كانت لا تعي ما تفعله، ولا تفهم معنى المغامرات، حيث إن المغامرة التي تودي بحياة أختها جراء كسور في الجمجمة ليست "مغامرة" حقيقية.
استدركت في النظر إلى الدراجة من بعيد، كانت لقطة غير طيبة، أرادت نسيان ما حدث ذلك اليوم، لكن الدليل أمامها، فتخريب الذاكرة أمر صعب إذا كانت تجلياتها موضوعة أمام أعيننا.
كانت علاقتها مع صديقاتها الثلاث متماسكة، أحبتهن جميعا، كانت تَراهُنَّ جزءاً من ذاتها، ولكن في الآن ذاته، كانت تشعر بأنها سائحة في حياتهن، تعيش لحظات قصيرة ثم ترحل، ثم تعود من جديد، ثم ترحل، لم تكن حاضرة طيلة الوقت، فقط في ومضات سريعة الزوال، ليست جزءاً من المجموعة، بل كانت فردا يضاف إلى المجموعة في وقت الحاجة.
سألت نفسها: كيف نشعر بالألم؟ هل عبر تذكُّر من نحب؟ الذين رحلوا عنا؟ والذين فقدناهم لسبب أو لآخر؟ وفي بعض الأحيان، نكون نحن السبب.
ندمت على مشاهداتها الدائمة لسباقات فلانتينو روسي، هذه المشاهدات التي جعلتها تخوض مغامرة ركوب الدراجات النارية في الشوارع القريبة من منزلها الصغير، حيث الحصى والرمل يتراقص أمام أعين المارة، ويطغى اللون الأصفر والملل على الأجواء.
من كان يظن أنها ستتسبب بمقتل أختها الصغرى، لم تكونا تضعان أي خوذات على رأسيهما، أرادت أن تغامر سلمى بعض الشيء، ولم يكلفها الأمر سوى فقدان دراجة، أخت، سعادة، أما الخوذة فما زالت في غرفتها لم تمس بعد.
حاولت الاتصال بصديقاتها وإخبارهن بأنها لن تأتي الليلة، لكنها لم تقدر، تصبب العرق على وجهها، لم تبدُ سلمى بخير. دخلت بيت أختها، وراحت تحملق في الظاهر والباطن، في الأشياء واللاأشياء، في صورة جماعية تجمعهما معا معلقة على الحائط. في الصورة، كانت أختها ترتدي خوذة وردية وتركب دراجة هوائية، بينما سلمى كانت واضعة يديها على كتف أختها وتنظر إلى الأمام.
ابتسمت سلمى، لم تبتسم الأخت، ابتسمت سلمى من جديد، حركت الأخت شفتيها وقالت بصوت هادئ "أنت السبب"، ابتسمت سلمى وقالت "أنا أعلم ذلك!"
تجولت بحذر في الغرفة، لم تستطع النظر إلى الصورة الجماعية، لم تقدر رؤية وجه أختها وهي تبتسم، فسلمى تعرف أنها لن ترى تلك الابتسامة مرة أخرى، ولكنها نظرت إلى الصورة من جديد، وقفت هناك فترة طويلة، ثم جلست على حافة السرير. لاحظت سلمى أن أختها لم تعد تبتسم في الصورة، بل تبدو حزينة جدا، تبادلت النظرات معها، مع الصورة، مع الجماد، حاولت التواصل معها، أن تتذكر تفاصيل ولو بسيطة عنها، عن ابتسامتها، عن حبها للمطالعة ولركوب الدراجات الهوائية، فجأة، أسقطت أختها الخوذة من على رأسها في الصورة الجماعية، وسمعت سلمى صوت سقوط الخوذة على الأرض، صوتا مروعا، مفزعا، صوتا يشبه صوت الحادثة.
اقتربت سلمى من الصورة، وهي لا تصدق ما تراه عيناها البنيتان، تنهدت بهدوء، استنتجت أنها شابة غبية، كما نستنتج من حين لآخر حالة إنسانية خاصة بنا، فالغباء والبلاهة والبلادة أجزاء منا، ترتبط بالندم ارتباطا شاملا، نقوم بعمل غبي ثم نندم، وهكذا، فكرت سلمى في ذلك مطولا، فكرت في قراءة تاريخ صناعة الخوذات، فكرت في شراء كتاب حول ذلك، لكن كل هذا لن يعيد لها مخلوقة أحبتها من أعماق قلبها.
أحياناً، كانت تشعر سلمى بشعور غريب، ليس الوحدة بالذات، ولكن تشعب للوحدة، انغماس في الحدس بأنها ليست وحيدة حقا لأنها تملك نفسها، ولكن ذلك كان تناقضا، فهي كانت "في الماضي" تملك أختا، تتحدثان حول كل شيء، تخبرها بكل أسرارها، حتى أن بعض الأسرار لم تكن سلمى تخبر نفسها بها. عندما تشعر بالاستسلام في شيء ما، فقط تعانق أختها لتعطيها قوة ما، تهديها حبا دافئا، لتستمر في مغامرة الحياة. بدأت أختها تحرك رأسها داخل الصورة بطريقة مخيفة، وبسرعة كبيرة، لاحظت سلمى أن رأس أختها مليء بالدماء في كل مكان، ثم بدأت الأخت بالصراخ، لم يكن صراخا عاديا، كان عبارة عن صدى، يتكرر زمنا معينا ثم يتوقف.
بقيت سلمى جامدة في مكانها تنظر إلى هذا المشهد المروع، بينما سلمى داخل الصورة هربت عندما بدأت الأخت بالصراخ، تنظر سلمى الموجودة داخل الغرفة، تنظر ثم تنظر، لم ترد الهروب خارج المنزل مثل سلمى داخل الصورة، فكرت في العشاء الذي ينتظرها بعد قليل، في الحوارات المتكررة مع صديقاتها الثلاث، والحديث عن نسيان أختها وإكمال حياتها، الحديث عن أحدث عطور ديور وفساتين شانيل، والحديث عن موعد اللقاء القادم. كانت تدري سلمى جيدا أنها لن تتحدث مع شخص مستقبلا بالطريقة التي كانت تتحدث بها مع أختها، كانت تسترسل في الكلام، ترتجل، تفرغ مكنونات داخلها، ودائما ما تجد آذانا صاغية في الجهة المقابلة، آذانا تسمع وتنصت وتستنتج وتحب عبر الأصوات والكلمات وأحيانا عبر صيحات البكاء، لم تكن سلمى تفشي أسرارا مع وجود أختها، لأنها لم تكن تملك أسرارا أصلا.
توقف الصراخ، وسقطت الأخت على الأرض، وفور سقوطها، توقف الزمن لوهلة قصيرة، وتحولت الصورة إلى بقعة من البياض، اختفى كل شيء. تفحصت سلمى الصورة عن قرب، بعينيها ويديها، صورة بيضاء لامعة، ثم بدأت بعض القطرات الحمراء تظهر هناك، مُشَكلة كلمة "أنت السبب".
ما إن رأت سلمى الكلمة، حتى خرجت تركض مسرعة من الغرفة، لم تعرف أين تذهب، ولم تجرؤ على النظر إلى الغرفة، أدامت النظر في باب غرفتها ثم دخلت عبره. شعرت بأن الغرفة تتقلص شيئا فشيئا، كل شيء مصغر، ما زالت تلك الكلمة تتجول في ذاكرتها الآنية، أنت السبب! أنت السبب! أنت السبب! بالطبع هي السبب، كلمات جعلتها تائهة في خضم الواقع، أو بالأحرى ما بعد الواقع، كلمات هزمتها منذ لحظات، أخرجتها من الغرفة وأخرجتها من حالة التذكر، من حالة وعي بلحظات ما قبل الحادثة، وتأملت مع نفسها أن شيئا بلاستيكيا كان بإمكانه إنقاذ حياة، حياة أختها، خوذة اشترتها من متجر الأشياء المستعملة بخمسين درهما فقط، وهو الثمن الذي يساوي نفحة من عطر تستعمله.
كانت الخوذة فوق سريرها، أرادت لوم نفسها منذ الحادثة بهذا الفعل، أن تلاحظ الخوذة منذ استيقاظها من النوم صباحا، ثم أن تكون آخر ذكرى للسفر عبر النوم ليلا. بقيت سلمى تنظر إلى السرير الذي يبدو مسالما، نقيا، منظما، نظيفا، ثم شاهدت الخوذة ولكنها الآن فوق رأس أختها الموجودة فجأة على السرير.
فوجئت سلمى بذلك، لعله وهم، خيال، انخداع بصري، تصور كاذب، حلم/ كابوس، ولكنها لم تهتم، اتكأت بجانب أختها، كانت تعرف أنها السبب، ولكنها أرادت لحظة أخرى من ذكرى ماضية، قد تكون لحظة واهمة، أو لحظة كذب عقلي لدماغها، ولكن أختها هناك.. مرة أخرى.
ابتسمت سلمى، لم تبتسم الأخت، ابتسمت سلمى من جديد، حركت الأخت شفتيها وقالت بصوت هادئ "أنت السبب"، ابتسمت سلمى وقالت "أنا أعلم ذلك!".