الذاكرة العاطفية والطعام
لا أدري شيئاً عن سر الترابط العاطفي ما بين الطعام والذاكرة، والتجارب القليلة مع أشخاص طلبوا طعاماً محدداً وغرقوا بعد تناوله في موجات من الحنين والذكريات تخللها صمت طويل ودموع كثيرة، لم تمنحني هذه التجارب أي تفسير سوى الارتباط القوي بين العاطفة والطعام، ومدى التأثير العاطفي للطعام ولو لمجرد ذكر اسمه.
أبو حسن، رجل سبعيني يبيع الأحذية الرجالية البلاستيكية، ملامحه تشي بحزن عميق، لا يصّر على أي شخص عابر ليشتري منه شيئاً، يفرد بضاعته القليلة على درج أحد الأنفاق ويجلس صامتاً، لا يقوى حتى على التحديق في وجوه المارة، إن سأله أحدهم عن السعر أو المقاس، يجيبه بصوت هادئ ويعاود صمته ملتجئاً إلى سكينته المعهودة منتظراً قرار الرجل بالشراء من عدمه.
بعد وقت ليس بالقصير، تمكنت من توجيه الكثير من الأسئلة إلى أبي حسن، لكنه لم يجب على كل أسئلتي. اقتصرت أجوبته كلها عن أهله وماضيه ومدينته وقريته وارتبطت بموضوع واحد، هو (الفريكة) وهي أحد الأنواع الخاصة من القمح المشوي على بيادر الفلاحين زارعي القمح.
ما زالت رائحة شواء الفريكة عالقة في ذهنه وقلبه معاً، ترتبط برائحة أمه وشكلها ودفئها، حتى إنه ذكر اسمها للمرة الأولى مصحوباً باسم الفريكة. ذكر أراضي أهله ومساحتها واخضرارها وسطوع الشمس عليها في مدينة الحسكة السورية، التي تعتبر خزان القمح السوري بأنواعه المميزة والشهية وبتقاليد أهل المنطقة في الطهي وتموين القمح بعدة أشكال ونكهات.
يا لسطوة الألم وقوة ارتباط تفاصيل الطعام بذاكرة ممتلئة حباً وشوقاً رغم كل الأسى والوضع السيء الذي يعيشه أبا حسن
ولما زرته بعد يومين مع طبق من الفريكة المطبوخة، لم يفعل شيئاً سوى البكاء. غمست كل لقمه بدموعه، أنهى طبقه بشهية كبيرة رغم الدموع، لكنه قال في النهاية: "فريكة أهلي وأرضنا غير!". يا لسطوة الألم وقوة ارتباط تفاصيل الطعام بذاكرة ممتلئة حباً وشوقاً رغم كل الأسى والوضع السيئ الذي يعيشه أبو حسن.
في سوق الحميدية، وهو أشهر سوق في مدينة دمشق، يبع معتز تماري وكعك، الأكلة الشامية المشهورة، على عربة متجولة، تقترب منه سيدة وتساومه على سعر الشطيرة الواحدة، يقدم لها خيارات متعددة، مع قشطة، قطع من الشوكولاتة، كريم نستله المحلّى، عسل، فستق حلبي! لكنها كانت ترد بنعم على كل خياراته، والحقيقة أنها كانت تريد معرفة السعر لا أكثر، لم تشتر السيدة شطيرة، قالت لي وهي تغادرنا: "ابني كان يحب التماري والكعك كثيراً، وعندما استلم راتبه الأول أحضر إلى البيت تماري وكعك لكل أفراد العائلة وأنا الآن لا أقوى على تناول التماري والكعك في غيابه". قالت هذا والدموع تلتمع في مآقيها، مشت دون أن تسنح لي الفرصة لأسألها عن ابنها ومكانه اليوم، مربط الذاكرة وعقدة ترابط النكهة مع الشوق والحب.
ضرب معتز كفاً بكف، وقال: "الله يعين الناس، من له قدرة على إطعام أولاده في هذه الأيام يكون حاله بألف خير". وأضاف قائلاً: "تخيلوا أنني أنا بياع التماري والكعك ومالك هذه العربة وما عليها، حتى لو بلغ مني الجوع عتياً، لا أجرؤ على تناول شطيرة واحدة، لأنها مكلفة جدا".
وأراناً كيساً أسود من النايلون الرخيص وقال: "زوجتي تحضر لي شطيرتي اليومية من الزيت النباتي والزعتر، وهي تحضر شطائر الأبناء إلى المدرسة، لكننا نحب طعام أهلنا، لقد ورثت هذه المصلحة من والدي، وللأمانة لحد اليوم لم أوفق بإعداد شطيرة واحدة تماثل نكهتها الشطائر التي كان يعدها أبي". دمعت عينا معتز.
التمعت الذاكرة وحضرت النكهة الخاصة المميزة، والقلوب ترّق وتحن حين تشتهي وتتذكر، عندما تستوطن الرائحة في الذاكرة توقظها معها أيضاً في لحظات الشوق والحنين والتعب والشعور بالغربة وبلوعة الفراق، إنه الترابط العاطفي العميق ما بين الذاكرة والطعام.