الذكاء الاصطناعي... هل سيكون مقبرة للمواهب؟
بعد يومين يحلّ علينا اليوم الدولي لمهارات الشباب، لذا يتبادر إلى ذهني تساؤل: هل ما زال لدينا شباب أصلاً؟ فضلاً عن وجود المهارات والمواهب!
يعاني جيلنا المعاصر من أزمات جمّة في ظلّ الحروب التي خلخلت النظام الاجتماعي والإنساني والأمني في كثير من بلدان الوطن العربي، وما صاحبها من منعطفات خطيرة على الصعيد الاقتصادي، ما جعله يتجه للترفيه، إما هروباً من الواقع والبطالة، أو مكافئاً نفسه بعد احتراق وظيفي لم يجنِ منه إلا الكفاف.
متطلبات الحياة المتزايدة سلبت من الشباب الشعور بالعنفوان، بل إنّ الأطفال صاروا كثيراً ما يُثقلون بالهموم نتيجة للوضع الاجتماعي/ الحياتي العام، كما أنّ فرص العمل تقلّ والمسؤوليات تكثر، والأجور في انخفاض مستمر، فيما تنحدر المجتمعات نحو السطحية والابتذال؛ فطالب الطب مثلا، وبعدما قضى سنين طويلة من عمره يجاهد في دراسته، يجد راقصة تتقاضى في سهرة واحدة ما لا يمكنه الحصول عليه في عام كامل من العمل، وكاتب الفيلم المبتذل يحصد ما لا يحلم به كاتب رواية أدبية أو مفكر اجتماعي عميق، حتى الخطّ لا أتذكر متى آخر مرة رأيت شخصاً يكتب بخط جميل، ومن كان يكتب جيداً مهارته توشك على التلاشي من فرط استخدامه للإلكترونيات..
يتحمّل الإعلام دوراً كبيراً من المسؤولية كونه لم يعدّ يسلّط الضوء على المواهب والبحث عنها، ومنذ حوالي عقدين زمنيين ماضيين، بُثَّ أوّل برنامج مواهب عربي، لكن هذه المواهب العربية اقتصرت على الغناء والرقص واستعراض الأجساد دوناً عن سائر المواهب والمهارات الأخرى، لتشعل التنافس على تلك المجالات، فما الذي سيجعل من الشاب يبحث عن مهاراته التقنية والفكرية والجسدية، وهو يرى الأموال قد حوّلت مجراها للابتذال والعري والبلطجة والترفيه والكماليات؛ بينما أصحاب المهارات الحياتية الأساسية كالنجارة والنحت صاروا من أقل الناس درجة اجتماعية؟! في حين صار التنمّر، مثلاً، من المهارات اللفظية التي يتم التباهي بها، وبين فترة وأخرى يتصدّر شاب عربي "التريند"، لكن في ماذا؟
حينما ينشغل المرء عن مهاراته الجسدية والصوتية والرياضية والعقلية، يتحوّل إلى دمية في مسرح هذه الحياة، تحرّكه خيوطها الإلكترونية
بالتزامن مع هذا، تغشى العالم طفرة إلكترونية، وبإمكاننا تسمية شباب اليوم بالجيل الإلكتروني، وصار العصر الرقمي عصر الكسل (بينما كان من الممكن أن يوفر لنا الترف الإلكتروني وقتاً لتنمية مهاراتنا)، فالذي كانت لديه مهارات حسابية صار يكتفي بتطبيقات الحساب الإلكترونية، والذي لديه مهارة الجغرافيا وحفظ الأماكن صار يستعين بتطبيقات تحديد المواقع إلى درجة أنّ البعض لم يعد يعرف الشارع الخلفي لحيّه لفرط استخدامه للتطبيقات، فيما جاء الذكاء الاصطناعي ليغني عن مهارات الرسم والغناء والمونتاج وكثير من المهارات التي ما زال يعمل لتوفيرها، فهل نجد قريباً تطبيق تواصل اجتماعي يبتكره شاب عربي؟
مجتمعاتنا في خطر؛ فنحن في حالة تخدير شديد، نحن بحاجة إلى الشباب وتطوير مهارات اجتماعية وصحية وكتابية ولغوية وإبداعية، وتسخيرها للتواصل مع العالم الكبير، ورعاية الأجيال القادمة قبل أن نهوي في فخّ الفراغ الذي يسبّبه الترف الإلكتروني. حينما ينشغل المرء عن مهاراته الجسدية والصوتية والرياضية والعقلية، يتحوّل إلى دمية في مسرح هذه الحياة، تحرّكه خيوطها الإلكترونية.