السرد وعطر النساء
تيمة الوطن تسكن المناص كما تسكن النص في أغلب روايات الكاتب السيد حافظ، فالوطن قصة حياة الكاتب، هو غضب وتعب وحب، وحزن وفرح. بل أصبح الوطن الهاجس الأكبر في مخيال الكاتب، فهو يقرأ الوطن ويكتبه، ويعشقه ويبغضه، حتى توّزعت رموزه ومعانيه في المسرح والرواية وعتباتها النصية.
ففي رواية " شاي أخضر" (القاهرة 2014) التي يستهلها بإهداءات إلى زملاء مثقفين ورفاق مسيرته الحياتية والفنية، والذين كانوا سنداً له في تألقه الإبداعي، وإلى أوطان احتضنته وخفّفت عنه جحود وطنه الأصلي، يبوح الكاتب بالوجع الذي انتشر في ثنايا أغلب رواياته وحيث "تظل مصر خنجراً يطعنني طوال الوقت وحبّاً وعشقاً غبيّاً لها وهي قدري..".
وتتوزّع حروف هذا الشعور الثقيل على طول الرواية من خلال حكاية "كاظم" وزفرات "فتحي رضوان" والتمرّد والاحتجاج عبر النصوص الموازية التي اكتنزت بها الرواية. ويظهر الكاتب داخل دهاليز الرواية باحثاً عن الأمل والنور، فلم يجده إلاّ في عطر الأنثى، فالسماء أنثى والأرض أنثى، "والكون أحياناً يتنكر في جسد أنثى ويشغل قلوب الشعراء والكتاب"، وفي هذا المعنى، يقول إمام العارفين الشيخ محي الدين بن عربي أنّ المكان الذي لا يؤّنث لا يعوّل عليه. وتحوّل السرد عبر مساراته وانكساراته إلى بحث محموم عن الحب ليداوي جراحات القلب والتعلّق بروح "شمس" و"سهر" لمقاومة الأرواح الشريرة، وبروح شهرزاد لاكتساب الحكمة ضد جنون الوطن والتاريخ.
ويظلّ التاريخ الهاجس الأكبر للسيد حافظ، فقد انغمس بروحه وفكره في جلسات ومحاورات طويلة مع المقريزي وابن إياس وابن تغري بردي وغيرهم، لتكون النتيجة انخراط التاريخ عبر الوقائع والشخصيات والرموز في الملحمة الروائية التي وسمها النقاد بالسباعية، بداية من "قهوة سادة" (2012) وانتهاء بـ"لو لم أعشقها" (2019).
انخراط التاريخ عبر الوقائع والشخصيات والرموز في الملحمة الروائية التي وسمها النقاد بالسباعية
تنطلق الحبكة الروائية في اشتباك وتضافر بين التاريخي والسردي، وذلك بحمل المؤلف سراجاً مضيئاً يمثل الجمال والحب، والذي يتجسّد في شخصية "سهر"، لينير به مغارات التاريخ وظلمات الحاضر. "سهر" التي يقول عنها الكاتب في بداية الملحمة إنها "اسم يعرفه الليل والبحر وأحلام الشباب المراهقين والرجال والعجائز على أبواب الدكاكين والمحلات في الجبل في بلاد الشام.." ( قهوة سادة).
وكانت "سهر" هي الفكرة الرئيسة التي فجّرت ينابيع إبداع الكاتب، و"منحته مقدرة السيطرة على الزمن وإحياء قصوره المختلفة عبر اندفاعه خلف مسارات روح سهر... فكانت صاحبة روحها الأولى هي "نفر" امرأة العطر الأسطوري في زمن أخناتون، ثم ذهبت الروح إلى نور في زمن موسى عليه السلام، وفي زمن الحاكم بأمر الل، عصر الدولة الفاطمية، كانت "شمس" هي صاحبة الروح، أما التجسيد الرابع لروح "سهر" فهو يأخذنا إلى الجميلة "وجد" في عهد الخليفة المستنصر بالله الفاطمي" (وفاء كمالو، كل من عليها خان).
هذا ما فعله عطر النساء بالسرد الحافظي، وكأني به يقتفي آثار الملاحم العالمية الكبرى، فقد فجّر عطر "هيلين"، ملكة جمال إسبرطة والعالم، حرب طروادة بعد الأزمة التي صنعتها الآلهة على قمم جبال الأولمب في محضر زيوس (ربّ الأرباب)، حينما ألقت إلهة النزاع والخلاف "إريس" تفاحة من الذهب مكتوب عليها "لأجمل النساء" فوق طاولة المدعوين من الآلهة، فشبّ الصراع بين "هيرا" إلهة الزواج و"أثينا" إلهة القوة والحرب و"أفروديت" إلهة الحب والجمال، فقرّر زيوس فكّ النزاع عبر الفانين من خلال شاب جميل وقوي هو ملك طراودة، باريس بن باريام، الذي اختار أفروديت، وهي بدورها منحته حب وشغف هيلين، أجمل الجميلات وزوجة ميليناس ملك إسبرطة.
نزلت أقدار آلهة الأولمب كالصاعقة على إسبرطة حيث وقعت الفاتنة هيلين في غرام باريس، ما دفعها للفرار معه إلى طروادة، لتكون النتيجة ملحمة شعرية قصصية عالمية خلّدها هوميروس في إلياذته. ويتكرّر تأثير العطر والجمال بوقوع الملك شهريار في سحر شهرزاد، فتنفجر بذلك ملحمة سردية عالمية على طول "ألف ليلة وليلة"، في حكايات بطلها الحب والجمال والخيال.
وهنا ندرك مع السيد حافظ أنّ "الحب هو المبدأ والمنتهى، وهو الأب الشرعي للفلسفة والحرب والسياسة، والثورة والفكر والاقتصاد... والإنسان والتراث والعدل".