"المزدوج" لدوستويفسكي... الجنون روائياً
مقابل إشادة النقاد بالرواية الأولى (الفقراء) للكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي، لم تحظ روايته الثانية (المزدوج) بالاهتمام والنجاح الذي كان يتوقّعه الكاتب رغم ما عاناه بسببها، وهي الرواية التي يبدو أنّها خرجت من أعماقه وعبّرت عن رؤيته الفريدة لطبيعة النفس البشريّة الغامضة.
وقد برّر الناقد بلينسكي (1811م-1848م) هذه البرودة في تلقي الرواية بالإشارة إلى البعد العجائبي الذي يتميّز به النص، وهو ما كان يخالف "الذوق المعاصر" الذي يسيطر عليه الاتجاه الواقعي في الكتابة الأدبيّة الروسية آنذاك. وبلغ التذمّر بدوستويفسكي من هذه الأحكام حدّ أنّه راسل أخاه ميخائيل، يخبره أنّ روايته الثانية هذه تتفوّق على روايته "الفقراء" أكثر من مرّة، ولشدّة ارتباطه بهذا العمل قال له مرّة: "أنا غوليادكين"، والذي هو بطل الرواية.
تحكي الرواية قصة البطل غوليادكين، وهو موظّف بسيط في الحكومة يتميّز بمزاجٍ مضطرب وشخصيّة ضعيفة تتأثّر بشكلٍ مُفرطٍ بالوقائع الخارجية: "دخل السيد غوليادكين إلى المكتب خجولا وجلا، وهو يتوقع أن يحدث شيء ما كريه، والواقع أنّ ذلك التوقع كان نابعًا من لاوعيه، غامضًا وكريهًا هو أيضا".
ويسيطر عليه القلق وتهجُم عليه الأوهام من كلِّ صوبٍ حتى تأتي اللحظة التي يلتقي فيها بشخصٍ غريب، يشبهه تمام الشبه، ممّا يرفع من منسوبِ توتّره وهلوساته، ويُصعّد السّرد هذا الاضطراب إلى النهاية حيث يسقط البطل في هاوية الجنون.
لم يظهر سرّ رواية "المزدوج" ونبوءتها إلا في بدايات القرن العشرين مع ظهور نظريات التحليل النفسي
الشبيه يدعى "ياكوف بيتروفيتش غوليادكين"، وهو ما يُحدث التكرار الممّل بين شخصيّات الرواية وتتصدّر أمواج صوت الاسم جلّ صفحات النص، لكن الكاتب يحاول إنقاذ النص من هذا الارتباك، بالإشارة إلى البطل بقوله: "بطلنا"، "غوليادكين الأكبر" أو "غوليادكين الأصلي"، فيما يدعو الشبيه "غوليادكين الأصغر".
اللّغة المضطربة والمختلّة التي اعتمدها الكاتب تُناسب إلى حدٍّ بعيد عوالم الشخصية الرئيسة التي سقطت في هاوية القلق وعدم اليقين، وهذا ما أشار إليه مترجم الرواية إلى اللغة الفرنسية، أندريه ماركوفيتش، والذي حافظ على الاختلالات والثغرات في النصِّ الأصل، إيمانًا منه بأصالةِ الشكل الذي أسّسه دوستويفسكي.
يّصوّر دوستويفسكي مأساة بطله في اللحظاتِ الأكثر خطرًا في الرواية بقوله: "كان بطلنا في تلك اللحظة، إذا جازت المقارنة، في وضع رجل صوّب شخص خبيث مرآة نحوه كي يتسلّى.. ما هذا؟ أهو حلم أم لا؟ قال في نفسه، أهو الحاضر أم أمس وقد عاد؟... هل أنا نائم أم أحلم؟".
الصراع والمعركة التي يُثيرها البطل بعد ظهور الشبيه هي بهدف إنقاذ ذاته وتخليصها من التفكّك والغموض أو السقوط في الالتباس، ممّا يهدّد وضعها الاجتماعي واستقرارها النفسي. ويبدو السرد كأنّه جريٌ محمومٌ من أجل امتلاك الاسم، لأنّ النص يشير إلى تعرّض اسم "غوليادكين" إلى اضطرابٍ في المدلول بالمفهوم اللساني، فالسرد يجعل الاسم يُحيل إلى مرجعين مختلفين في الواقع، فهو "الأنا" بالمفهوم الفرويدي و"آخر" في الوقت نفسه. وتظهر عبقريّة الكاتب في تصوير الأزمة النفسيّة الداخليّة والمتمثّلة في العجز أمام مواقف تتطلّب الجرأة في الاحتجاج على سلوكيّات غير لائقة، والجهر بالكلام حين ينادي المقام إلى الكلام: "وتارة يشعر بدغدغة على خدّه جرّاء مداعبة بإصبعين كان قد تعرض لهما، إمّا في حياته العامة وإمّا في مكتبه نفسه، ووجد صعوبة في الاحتجاج عليها..".
هذه المواقف الصعبة والإشكاليّة تكفّل بها غوليادكين الأصغر ممّا خفّف من الضغط النفسي المسلّط على غوليادكين الأكبر، ويظهر الشبيه في الرواية بمثابة الشخصيّة المثال التي تسكن لاوعي البطل، فهو ينجح في كلِّ المواطن التي يفشل فيها غوليادكين الأكبر، وهذا ما يزيد من تأزمه، ويشعر أنّ الشبيه ما هو إلاّ مؤامرة حاكها أعداؤه، وتختلط الأمور في رأسه ويخفق قلبه من شدّة الانفعال: "أحسّ السيد غوليادكين الأكبر كأن أبواقا تزعق في دماغه، ملايين الأبواق، وكأنه يغشى عليه، خيّل إليه أنه يرى مجموعة من "الغوليالدينات" يشبه بعضها بعضا كل الشبه. كانت تلك المجموعة تهرع كلها، دفعة واحدة، نحو أبواب القاعة..".
في النهاية يظهر الطبيب ويقوده إلى العربة خارجًا، وهو يقول: "سيكون لك مسكن بالمجان، على حساب الدولة، مع مدفأة، مع أنك لا تستحق ذلك..".
ما أتى به دوستويفسكي هو قمّة في التراجيديا الإنسانية
لم يظهر سرّ هذه الرواية ونبوءتها إلا في بدايات القرن العشرين مع ظهور نظريات التحليل النفسي، وكأنّ غوليادكين هو من مهّد لكلّ من الأمير مشكين، راسكولنيكوف، إيفان كرامازوف، وغيرهم من الشخصيّات الإشكاليّة لدوستويفسكي، الشخصيّات التي لا تؤمن بالحدود وتذهب بالمشاعر والعواطف إلى نهاياتها. يقول ستيفان سفايغ في نصّه البيوغرافي عن صاحب "المزدوج" إنّه "توغّل في عالم اللاشعور السفلي توغلا أعمق ممّا فعل الأطباء والقانونيون وعلماء الجريمة والنفسانيون، وكل ما كشف عنه العلم وسمّاه بأسمائه.. وقد اقتفى آثار الظواهر النفسية إلى حافة الجنون وإلى حافة الجريمة، وقطع بذلك مسافات لا تنتهي من الأرض النفسية الجديدة..".
قبل ظهور الرواية بسنوات، كتب دوستويفسكي لأخيه يقول: "لدي مشروع لأصبح مجنونا"، وهي إشارة منه للتماهي مع عقل المجنون للكشف عن عوالمه ومشاعره التي تُعاني من سطوةِ الواقع، فتصنع بذلك عالمها ولغتها الخاصة. إنّ الفكرة المضيئة على حدّ تعبير أحد النقاد، لدى دوستويفسكي، ليست في الازدواجية والتخييل المرضي الذي صوّره جماليًا، ولكن الكشف عن الثنائية الوجودية داخل النفس البشرية. وما أتى به دوستويفسكي هو قمّة في التراجيديا الإنسانية، فهذا سوفوكليس يُنسب إليه القول أنّ "ما يزعجك في الخارج، هو بداخلك..".