السيد سيغما صحافياً في أيّامنا
السيّد سيغما شخصيةٌ افتراضية اخترعها المفكّر والروائي الإيطالي، أمبيرتو إيكو (1932 - 2016)، ضمن كتابه النظريّ "العلامة: تحليل المفهوم وتاريخه" (1973). كان يريد من خلال هذه الشخصية أن يسوق مثالاً مُبسّطاً عن "ارتطام" الإنسان بشكل مستمر بالعلامات، وكيف أنها ليست مجرّد عناصر ملقاة في العالم، بل إنها أيضاً مفاتيح العبور فيه، وأنها غير محايدة أو مجرّد أدوات إشارة وتنفيذ، فهي تغيّر المسارات وتُعيد ترتيب الأوراق حسب أولويات تضعها في طريق السيد سيغما، فلم تعد بذلك مكوّناً من مكوّنات العالم بل باتت من عناصر بناء الإنسان ذاته.
يجعل إيكو من السيد سيغما إيطالياً مثله، ويَجعله يقضي عُطلته في باريس، هناك حيث اللغة والإشارات والإيماءات مختلفة عن البيئة الأولى التي نشأ فيها. كان عليه أن يتأقلم في كلّ وضعية مع نظام العلامات الفرنسي وينسحب من الأنظمة المستقرة في ذهنه.
يقترح إيكو عقدة مبسّطة في حكاية السيد سيغما؛ تؤلمه ذات أمسية معدته (وتلك علامة أولى)، فيضطر للنزول من الفندق للبحث عن طبيب، وهذا الأخير لن يكون من السهل عليه أن يصل بسرعة إلى الدواء المناسب ما لم تصله الكلمات التي تصف نوعية الألم الذي يشعر به السيد سيغما. وقبل ذلك لن يستطيع السيد سيغما أن يصل إلى الطبيب ما لم يعرف كيف يبلغ العيادة عبر نظام الإشارات الموجود في باريس، كان عليه أن يتهجّاها، ولو بحث عن طبيب عبر دليل الهاتف فالأمر سيّان، إذ سيدخل دغلاً من العلامات كي يصل إلى المطلوب، وحين يجد الرقم عليه أن يفهم تنويعات الأصوات التي يصدرها جهاز الهاتف كي يعرف متى ينتظر ومتى يتكلم، إلى غير ذلك من السلسلة الطويلة من الارتطامات بالعلامات.
مثال إيكو مبسّط للغاية. كان السيد سيغما يتحرّك في إطار واقعي بحت، أثّثه أمبيرتو إيكو خصيصاً كي يُبرز مفارقة حضور العلامات في ما يُفترض أنها غائبة، وما هي غائبة إلا باختزالات العادة. كان إيكو يستطيع إمداد السيد سيغما بتعقيدات أكبر لو غيّر باريس بمدينة في اليابان مثلاً. وبدل أن تكون علته ألماً بسيطاً في المعدة، لنتخيّل أن يكون ألماً في كامل جسمه لم يمرّ عليه من قبل، فلا يدري حتى كيف يشرحه لنفسه. بهذا الشكل، يمكن تعديل بيانات السيد سيغما إلى ما لا نهاية وستؤدّي كل الطرق إلى أطروحة إيكو. غير أن وقع الارتطام بالعلامات ليس ذاته في كل حكاية ممكنة من حكايات السيد سيغما.
ماذا لو افترضناه صحافياً في أيامنا هذه. ولنجعله يتابع أحداث العالم وهو جالس أمام جهازه. هكذا نكون تقريباً قد اختزلنا العالم حقاً في علامات تظهر في إطار واحد عبر شاشة.
الجميع وهو يعبر العالم معرّض للارتطامات المتتالية مع العلامات بمختلف درجات وقعها
في هذه الوضعية، لن تكون العلامات التي سيرتطم بها السيد سيغما إشارات مرور أو كتابات في دليل هاتف أو أصواتاً في لغة أجنبية. ستكون احتجاجات عنيفةً وحروباً وزلازل، أي علامات ثقيلة سيُعيد تركيبها في علامات لغوية لتصريفها صحافياً، وقد ترفّه عليه من حين إلى آخر بعض الأخبار الخفيفة المتفرقة التي يستأنس بها كي لا يُختزل العالم في حروب وأوبئة وكوارث طبيعية، فتلك العلامات ثقيلة تبعثر كلّ شيء حولها، تماماً على شاكلة فعلها في الواقع، فليست دبّة النملة كدبّة الفيل. إنها تحفر شروخاً في أرض الواقع، وعلاماتها حين تمرّ بنا تكون أقسى بكثير من تلك التي وضعها إيكو في طريق الشخصية التي اخترعها وكأنه أشفق عليه منها.
أما السيّد سيغما كما اخترعناه فسوف يبني العالم من مادة العلامات التي يرتطم بها وترتطم به يومياً: يحدث انقلابٌ في سيريلانكا فيتعرّف على فساد طبقتها السياسة، يتفشّى وباء فيتعرّف على هشاشة المجتمعات والمعرفة في التصدّي لها، تقوم الحرب في أوكرانيا فيهبُّ لمعرفة السياقات والتداعيات، تُغلق النسخة العربية من إذاعة "بي بي سي" فينغمس في العلاقة النوستالجية التي خلقتها مع أجيال متتالية، وحين يحدث زلزال في سورية وتركيا تنفتح في وجهه معارف شتى حول حركة الطبقات التكتونية والهندسة المعمارية المضادة للزلازل. وهكذا في سلسلة لا تقف، أقصى ما يطمح إليه السيد سيغما هو أن يكون "سيزيف سعيداً"، فهو يعلم أنه لو انقطعت حلقات السلسلة لفقد قدرته على تهجّي العالم، وبات مثل السيد سيغما الأول في مدينة لا يفهم من إشاراتها الشيء الكثير.
حين يقوم السيد سيغما بعمله الصحافي ينقل هذه الارتطامات إلى مدى أوسع. في النهاية، الجميع معرّض، وهو يعبر العالم، للارتطامات المتتالية مع العلامات بمختلف درجات وقعها. ما الحضور في العالم إلا ميكانيكا المقذوفات هذه، وما الإنسان إلا هذا البناء المستمر من عناصر هذه المقذوفات. لذلك ينظر السيد سيغما إلى الثورات والأوبئة والحروب والزلازل، ويقول: ماذا ستصنع منا؟