الضوء آخر النفق
الرؤية النفقية مصطلح يطلق على رؤية الأشخاص الذين لا يرون المشهد بالكامل، حيث يكون تركيزهم بالكامل على الجزء الواضح أمام بؤبؤ العين، وهذا قد يكون لسبب مرضي، أو بدون سبب سوى اقتناعنا الشخصي وإعجابنا بما نراه، وأحياناً إيمانِا منّا بأن ما ننظر إليه في تلك اللحظة هو أكثر من كاف ولا يجب علينا البحث عن ما هو أبعد أو أكبر مما نراه، حتى ولو صفعنا على وجوهنا. لا يهم. المهم أنّ لا نشيح بأنظارنا عن الضوء الذي ينير النفق.
كنت استمعت مؤخراً لوثائقي عن إحدى الجرائم التي حدثت منذ ثلاثة عقود، وعن كيفية تعامل رجال الشرطة مع الأمر، مروراً بالتحقيقات والبحث وراء كلّ ما قد يساعدهم على حلّ تلك القضية التي كالعادة ما لبثت أن اختفت ونسيها الناس بعد وقتٍ قصير، لتعود مرّة أخرى للعلن بفعل الضغط المستمر من أهل الضحية واتفاقهم ضمنياً مع رجال الشرطة على متهم لم ينل جزاءه العادل، ليتم القبض عليه بالفعل وإدانته بعد مرور عقد كامل، وبعد محاكمته أكثر من ثلاث مرات وبدون أي دليل مادي على إلاطلاق يتم الحكم عليه في نهاية المطاف ليشعر أهل الضحية بالراحة أخيراً ولتخرج الشرطة على الناس معلنة أنّها أدت واجبها على أكمل وجه، وأنّ عين العدالة الساهرة لا تغفل مهما طال الزمن.
في حالتنا تلك بالتحديد كانت العدالة تعاني من نفس المشكلة التي سبق ووضحتها في السطور السابقة، فالعدالة لم تكن تنظر على الإطلاق ولا يمكنني حتى أن أستخدم هنا مصطلح الرؤية النفقية.
وقت حكمنا على الآخرين ننسى أننا ندمرهم في طريقنا، وندمر أحلامهم وفرصهم والكثير من الأشياء التي لا يتسع المجال لذكرها
في حالتنا تقدم أحدهم بالكثير من المعلومات التي جمع بعضها، وخمن البعض الأخر ولكن بمنتهى الدقة والإتقان، لدرجة جعلت كل من عمل بالتحقيق على القضية لا يفكر في تأدية مهام عمله بالشكل الملائم لثوان. في مكان يعج باللصوص وتجار المخدرات وعصابات السرقة، والكثير من المخاطر، كل ما جال بخاطر المحققين أن الشاهد الوحيد يعرف الكثير وبالتأكيد هو يعرف لأنه المجرم، بالرغم من انتفاء كل الأدلة وعدم تورطه بأي شيء سوى تحمسه للشهادة والتخمين ومساعدة المحقق وجعله ينبهر بقدرته على التخمين بدون مشاهدة الحادث كله.
لحسن حظ شاهدنا الوحيد، كان أحد العاملين بالمحاماة يشاهد حلقة حوارية تتحدث عن الجريمة، وعن كيفية حلها بعد كل هذا الوقت، وعن بعض التفاصيل التي أثارت اهتمامه، ليذهب بعدها ويبحث عن تفاصيل أكثر تكشف له عما حدث بالفعل لينقذ الشاهد البريء ويكشف من خلال تحقيقات الشرطة وسجلاتها أن المحققين تجاهلوا أكثر من دليل وقت التحقيقات وبعد مراجعة كل شيء والبحث من جديد كان الدليل الوحيد توفي بعد استصدار أمر التحقيق معه لتصبح قضيتنا باردة لا حل لها، بعدما تفككت أسرة الضحية وأسرة المتهم البريء وضياع حق الضحية للأبد.
وأنا أستمع للحلقات الأولى كنت أرى الأمر من وجهة نظر المحققين فقط وبدون معرفة التفاصيل التي عرفوها وحدهم، ولم يعلنوها إلا بعد فوات الأوان، وقتها كنت مقتنعة بما تم تقديمه إلي ولم أفكر مثلهم بمنطقية، مع فارق جهلي بالتفاصيل، وعدم شكي للحظة واحدة أنهم لم يؤدوا عملهم على خير وجه حتى ظهر الجانب الأخر للضوء!
جعلني هذا الوثائقي أفكر كثيراً في ما أفعله وأفكر به، وفي ما يحدث من حولي، فقياساً على ما سمعت أجدني والكثيرين من حولي، والكثير من صناع القرار حول العالم يفعلون مثل ما فعل المحققون عند الحكم على الكثير من الأمور. ولا يمكننا الجزم هنا بسبب تلك الرؤية لدى الجميع، فبعضنا لا يحب إرهاق نفسه في البحث، وبعضنا لا يشغل باله على الإطلاق، وبعضنا تعجبه الفكرة لدرجة الجنون فيحاول أن يلغي كل ما عداها كما فعل المحققون في قضيتنا فينتهي به الأمر للفشل في ما يفعله.
وحين نتحدث عن الفشل لا نتحدث فقط عن الفشل الشخصي الذي يواجه الشخص المخطئ في حكمه، ولكننا وقت حكمنا على الآخرين ننسى أننا ندمرهم في طريقنا، وندمر أحلامهم وفرصهم والكثير من الأشياء التي لا يتسع المجال لذكرها، ولا نفكر في الفرصة الثانية التي لا تمنحها الحياة لكل من مر بطريقنا، ولا بما أضعناه ولا يمكننا إرجاعه مهما فعلنا.