الطغاة... يحبّون أن تلعب شعوبهم بالثلج
أنس ناصيف
ما إن يعلن مذيع النشرة الجوية تعرّض البلاد لمنخفض قطبيّ المنشأ، وأنّ الكتلة الهوائية الباردة ستأتي محمولة على رياح شماليّة قاسية، محذّراً من تشكّل الجليد في المرتفعات، وفي المناطق الداخلية حيث نعيش، حتى أواظب على رفع رأسي كلّ دقيقتين لأنظر عبر زجاج النافذة، ثم ألتفت إلى أبي "بابا الغيم غيم تلج مو هيك؟"، ليومئ برأسه في كلّ مرّة أكرّر سؤالي، فتتنهد جدتي لأنها تمقت البرد وتمجّد سيرة التذمر منه.
كنتُ أرتبك حين يهطل رذاذ المطر وتفزّ علاماتُ القلق من وجه أختي، فإن نزل ستتبلّل الأرض وتذوب ندف الثلج الذي نأمل أن يتساقط، ولن نلعب به إن لم يعلق على السطح وأرضية الدار وحواف الشبابيك والطرق، كما أنّ يوم الغد لن يكون عطلة، فغالبية الأهالي يفضّلون عدم إرسال صغارهم في الصباحات المثلجة إلى المدارس كي لا يتزحلقوا، فيعودوا إلى البيت بجبيرة بيضاء.
تحت ثقل الإحباط الذي يهبط علينا نجلس قرب المدفأة، محاولين التكيّف مع قدر من يعيش ملتصقاً بالبادية.
أقترب من باب الغرفة، أفتحه وأتفحص الأجواء، ثم أنده لأختي: "بلشت تتلج"، لتركض نحوي وفي عينيها خوفٌ من كذبةٍ بيضاء. "إي يا ستيّ هادا بيقلولوا صحصوح، شوي تانية بتصير تشلح تلج، سكروا هالباب وفوتوا طعنتونا من البرد"، يأتي صوت جدتي المختفية من وراء المدفأة التي تتمايل في أعماقها سنابل النيران الزرقاء.
يلفّون بالابتسامات قلوبهم المرتجفة، ثمّ يفتحون الباب على عالم من بياض، بينما الطاغية يغلق الأبواب، ويجلس وحيدًا قبالة البلد الذي أحرقه وأكل رماده
يتصل أبي بعمّي الذي يؤكد له أنّ سماكة الثلج نصف متر في شوارع حمص. وعندما تُضيف أمي أنّ خالتي أخبرتها كذلك أنّ الثلج في الشام لم يتوقف عن الهطول منذ الفجر، نُثبّت التلفزيون على القناة الأولى لنسمع فيروز تُغنيّ "تلج تلج عم تشتي الدنيا تلج". عم تشتي الدنيا تلج في بلدٍ لا يتحرك فيه شيء، فالمشهد فارغٌ حدّ الحزن ويتسع للكثير من الثلج، فلنصوّر الناس وهم يلعبون، الطغاة يُحبّون شعوبهم أنْ تلعب بالثلج.
كنّا نوافق على الذهاب إلى النوم بعد أن يؤكد لنا أبي أننا سنستيقظ والدنيا بيضاء. حصل ذلك مراتٍ قليلة، لكنني أُحسّها الآن مجرّد أحلام، ما حَفر في ذاكرتي كانت الخيبة، كنّا نفتح عيوننا في الصباح على ترابٍ مصقوعٍ تحت سماءٍ تشعّ زرقةً متوحشة.
في شتاء بلادٍ نفد منها وقود التدفئة، يهرع الناس في الأرياف ومخيّمات اللجوء ليحطّبوا ما بقي من أشجار يابسة، وفي المدن يجمعون ما يتوافر من أحذية وألبسة تالفة وأكياس نايلون بالكاد تحيي النّار لدقائق. وحين ينزل الثلج ينضح "قشب" وجوه الأطفال بالحيرة وعدم الفهم، فهل يفرحون لهطوله أم يتألمون، ولكي لا يضيع الوقت في البحث عن إجابة، يلفّون بالابتسامات قلوبهم المرتجفة، ثمّ يفتحون الباب على عالم من بياض، بينما الطاغية يغلق الأبواب، ويجلس وحيداً قبالة البلد الذي أحرقه وأكل رماده.