كيف لكم أن تؤاخذونا على شيء؟
أنس ناصيف
بمجرّد النظر في عينيّ أيّ شخص وُلد في فترة الثمانينيات، أستطيع أن أخمّن أنّه أراد عندما كان طفلًا، أو خطر في باله على الأقل، أن يصبح في المستقبل رائد فضاء مثل محمد فارس، وأنّه صُعق عندما كبر وعلم أنّ رائد الفضاء السوري الوحيد كان ضابطًا في الجيش ولا ينحدر من شيء وطنيّ أو روسيّ يشبه وكالة ناسا.
جيلنا بأكمله سأل في نفسه كيف تفوز فرنسا بكأس العالم 98، ونحن الذين فزنا عليها في دورة ألعاب المتوسط عام 1987 ولم نتأهل مرّةً واحدةً إلى كأس العالم؟ لنكتشف بعد سنوات، أنّ الفريق الذي فزنا عليه كان المنتخب الأولمبي تحت 23 سنة، وعلى الأرجح أنّ خطة فريقنا تضمّنت تغيير أعمار بعض اللاعبين في دائرة النفوس، وحلاقة ذقونهم لمرّات متتالية بشفرات "ناسيت" كي يبدو سنّهم أصغر، وهو تكتيكٌ استخدمه لاحقًا "اتحادنا الحربوق" لكرة القدم وكشفته الفيفا.
نحن الجيل الذي تمعّن في أصابع آبائنا الثخينة وهي تقصّ بونات الرزّ والسكر من دفتر التموين. راقبنا البيض يغلي في تنكة سمن الأصيل، وقطفنا بالسرّ الحبق المزروع في عبوات الحجم العائلي من حليب نيدو.
أبطال جيلنا المخضرم، الذين قضوا آلاف الساعات يلعبون الأتاري ويُعيدون اختتام لعبة ماريو، يُعدّون أنفسهم ثمرة جيل السبعينيات، وجه سحّارة القرن العشرين، ينظرون بتعالٍ لجيل التسعينيات، جيل البوكيمون ومياعات "مسيرة التطوير والتحديث".
نحن جيل امتلك أحلامًا مثل غيره من الأجيال، امتلكها بكلّ ما أوتيَ من ابتذال
كيف لكم أن تؤاخذونا على شيء؟ ونحن الذين شهدنا ثورة إدخال لعبة ترتيب المكعبات الملوّنة في أحدث إصدارات تلفزيون سيرونيكس، ورأينا جارنا يخرج ببيجامته القطنية إلى الشارع ويضحك مذهولًا من قدرة جهاز التحكم على تقليب القنوات من وراء الجدران!
كان الواحد منّا يضع الخمس ليراتٍ في جيب مريوله البنيّ ويذهب إلى المدرسة، فيحتار ماذا يشتري بها: الفول أم "مربّى الفوار" أو "العلوك المدعبلة". كيف لكم أن تؤاخذونا؟ ونحن الذين ردّدنا حتى الصف السادس بأعلى صوت "للبعث يا طلائع/ للنصر يا طلائع/ أقدامنا حقول طريقنا مصانع".
ومع بداية عطلة الصيف، كان أولاد الحارة يتشاركون على شراء كرة قدمٍ تشبه تلك التي يلعب بها الكابتن ماجد، كنّا ندعوها "طابة دولية"، ونستهل اللعب بها على قاعدة "ممنوع الشقع"، أي ممنوع ركل الكرة بقوة على السيقان الغضّة. وبالطبع بعد تنفيسها قليلًا كي لا تبقى "محجّرة" فتسيل الدماء من أنف شخصٍ آخر، غير ذاك الذي تهوّر حين ضربها بالحائط فارتدّت لتلطمه في منتصف وجهه، ولتكون إصابته ذريعةً لنضعه حارس مرمى طوال المباراة.
كان الواحد منّا يضع الخمس ليراتٍ في جيب مريوله البنيّ ويذهب إلى المدرسة، فيحتار ماذا يشتري بها: الفول أم "مربّى الفوار" أو "العلوك المدعبلة"
وُلدنا في زمن ديكتاتورٍ عجوزٍ انتهى من سَجن "العالم الأوادم" وبدأ باستيراد السردين من المغرب، ودعم الصناعة الوطنية فامتلأت الدكاكين بالراحة والبسكوت، وهما الرهان الأكثر شعبية بين لاعبي الطرنيب، الذين قضوا أمسيات الشتاء يشربون الشاي ويلعبون الشدّة مُنتظرين موت "الرفيق المناضل" ليتغيّر شيءٌ ما في حياتهم. كان جيلنا ينتظرُ أن تنتهي اللعبة ليُخرج أحدُ أفراد الفريق الخاسر المال من جيبه، ويرسلنا لنشتري سفط راحة وعلبتي بسكوت، فتُطبّقها الأمّهات على بعضها البعض لننهشها قرب المدفأة.
نحن جيل امتلك أحلامًا مثل غيره من الأجيال، امتلكها بكلّ ما أوتيَ من ابتذال، كانت مثل تلك الكرة التي تشارك أولاد الحارة على شرائها، سبَبَ بهجتهم وصخبهم. لكن ما لبثتْ أن خرجتْ من بين أقدامهم التي تسمّرت في الأرض، بينما عيونهم تلحق بالكرة وهي تتدحرج صوب السيارة العابرة. أحسّوا بتلك الثواني زمنًا طويلًا، شحبتْ وجوههم ثمّ انتشت بجرعة أملٍ بعد أن مرّت الطابة ونجت من بين أوّل عجلتين، لكنّ صوت انفجارها تحت العجلة الخلفية مزّق قلوبهم، لقد عادوا إلى منازلهم يحملون جثتها، بينما الجار الشرير يمدّ رأسه من الشرفة ويبتسم.