الفدائي الذي لا نعرفه
23 نوفمبر/ تشرين الثاني، سجلوا هذا التاريخ جيدا، انقشوه في ذاكرتكم واقفلوا خزائنها عليه، واتلوا على أبنائكم روايته؛ وقولوا لهم إنّ الشمس أشرقت صبيحة هذا اليوم رغماً عن الغيوم التي حاصرتها، وتبسّمت وهي تُضيء بأشعة من طيفها سماء القدس، والأرض اهتزت فهزّت كيان مغتصبها، وأنزلت لعنتها على عصابته "الأمنية والعسكرية" مزلزلةً إياها؛ حين ترجل فارس من رحمها فدائياً لم نبصره، لكن القدس أبصرته كما قلوبنا؛ فور تنفيذه عملية مزدوجة بطولية بتكتيك أغرق العدو بهزيمته، وحاصره بذله وهو يذكره بأعمال مقاومة مضت عليها عقود، وعام، وشهر، وأسبوع، ويوم، وثانية، تلاحقه كلّ وهلة، تعرّيه وتفضح كذبه في التستّر على حصيلة قتلاه وجرحاه المغتصبين.
هذا الفدائي، كما أقرانه، أوقع المحتل بحفرة أراد له السقوط بها، وتركه يتوعد ويطلق رئيسه وحكومته وتشكيلتها المرتقبة ومتطرفوه وإرهابه قطعاناً يشمشمون آثاره ظنّاً منهم بأنهم سيقبضون على روحه، بينما كان آمناً مبتسماً سالماً في منزله يغفو على وسادته بعد صباح افتتحه بتفجير حافلاتهم، بحماية وهبتها له قدسنا.
وربما ستكون حكايته هكذا: فدائي هادئ لا يحبّ الإفراط في الكلمات حين يحادث أحدهم، وبلغ الأمر حدّه مؤخراً حين تملكه الصمت إثر نار الفقد التي يزداد اشتعالها يوماً تلو الآخر في قلبه الذي أنهكته ذكرى الأحبّة، كما أجّجت داخله العزم لانتزاع الثأر، فتوجه نحو طاولته التي ربما كان الأحمر هو اللون الطاغي عليها. جلس على مقعده الذي يكسوه جلد أسود، وجلب خرائط كلّ شبر من أرض في بلاده المحتلة، رسم دائرة حول العينة المستهدفة، ثمّ مكث لأيامٍ وأسابيع يدرسها؛ لا ليعدّ بحثاً أو دراسة، ومن ثم يناقشها ويذهب ليحكمها علمياً ويقدمها لهذا العالم ليستجدي من ضمائرهم الاستيقاظ، فأمله قد احتضر، كما ضمائرهم التي تلقفها الاستعمار والإمبريالية والصهيونية منذ أكثر من 70 عاماً.
فحين ترى هذا الفدائي تظن أنّ لا فرق بين ليل وصباح لديه، فهو يمكث في غرفة يكسوها الظلام والنور! الضوء متوقد، لكنه يخفت شيئاً فشيئاً إن لمح أحدهم، فالرؤية تحتجب هنا، إن مرّ جاسوس أو جندي محتل، ويعلن رهاب الضوء النفير حتى يعمي أبصارهم عن هذا الفدائي الذي أخذ يستأنف دراسته بهدوء، وبلا شك، لم يحدّد مشكلة الدراسة، لأنّ من يحدّدها هنا، الدم ولا سواه.
أخذ قسطاً من الراحة واستمع لأنشودته المفضلة: أحلم بالشهادة... تحاصره تكبيرات تصدح من الأقصى، وترانيم تطلقها كنيسة القيامة
أخذ الفدائي قسطاً من الراحة واستمع لأنشودته المفضلة: أحلم بالشهادة. ثم عاد ليحدّد المجال المكاني لعمليته الفدائية، تحاصره تكبيرات تصدح من الأقصى، وترانيم تطلقها كنيسة القيامة، وهي تدق أجراسها، ليقول: إنها القدس تُنادي... وهو يحدّد العينة المستهدفة، والتي لم تكن عشوائية، إذ كان قلمه يدور ويرسم بلونٍ أحمر دائرة حول المغتصبين المحتلين المستهدفين.
أما المجال الزماني لعمليته، فقد حُدّد منذ خُلق على أرضه ووجد مغتصبيها يمرحون ويسفكون الدماء، ليبدأ قلبه برسم تخطيطات لتلك العملية. هو يتريث كونه هادئا كما أسلفت الذكر، حتى جاء اليوم والثأر نادى، البطل تامر الكيلاني ارتقى شهيداً. صمت وثار قلبه للثأر، وأخذ يخطّ بدقاته تكتيكاً للعملية، وهو يصدح: الثأر بالثأر كما قُتل تامر ستقتلون. وضعتم عبوة ناسفة بدراجته فتلقوا الآن العبوات في حافلاتكم، ولتحلّ عليكم لعنة الأرض وأبنائها وأحفادها وأجدادها...
وفجأة باغت النوم الفدائي ليزوره طيف تامر ابن الجبهة الشعبية وهو يعلو في الجنان، قائلاً له "أما آن الأوان"، ليجيبه الفدائي "أبشر الموعد اقترب. قتلوك في 23 أكتوبر/ تشرين الأول، وسنقتلهم في التاريخ ذاته بعد شهر من استشهادك، ودع نوفمبر يشهد علينا". وصدق الفدائي بوعده، وترجل في هذا اليوم، احتسى قهوته بهدوء، نفث دخان سجائره، ونحو القدس اتجه والقلب يُسيّره نحو الرقعة التي سيستهدف بها العينة المحتلة عشوائية العرق، فزرع بضلوع الأرض عبوات أخذت تنسفهم، ومضى يحدّث طيف تامر قائلاً: "العبوة الناسفة وضعوها لك في دراجة تشبه هذه يا تامر، أبشر في المكان ذاته سنضعها وسنفجرهم"، ثم مضى ووقع التفجير.
وبعد 30 دقيقة كان يحاور تامر قائلاً: "واللّه لم أنتزع ثأرك بعد، انظر لي وأنت تعلو في السماء، فهذا التفجير الثاني أمام مدخل حيهم الاستيطاني على أرضنا سأذيقكم مرّ الكأس". وهنا صُفع العدو مرّة ثانية، أمامه قتيل وأكثر من 20 جريحا، بدأ لملمة أشلاء أمنه وموساده واستخباراته من الأرض وفوقها، حيث كان تامر ورفاقه يحتفون بهزيمته الساحقة، يحيّون الفدائي وطيفهم يرافقه حتى عاد إلى منزله بسلام، وما أعظم مفردة السلام هنا.
وفي أعقاب ذلك نام الفدائي على سريره، فهناك زوّار في الحلم، رفاق اعتلوا واعتلوا السماء سيزورنه ظهيرة اليوم، هم وحدهم يعرفونه ويحفظون ملامحه، وقناصون إيرانيون أكملوا عمليته البطولية في الفضاء الإلكتروني فاخترقوا منظومة بني صهيون وأخرجوا أشرطة العملية البطولية وبثوها ليعرّوا هذا المحتل وهو يتساقط، والفدائي أوكل إلقاء البيان للمقطع الذي رأيناه جميعاً لفدائي لا نعرفه على أرض قدس مقدّسة، تعرفه كما كلّ المقاومين الذين سبقوه، وسيلحقونه، وهم يحلمون بالصلاة على أبواب قيامتها وأقصاها.