القرآن والإنسان ومعضلة الرمزية بين السويد وروسيا
"بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله، لا ولد له، ولا شريك له في الملك، من طرف الفرنساوية المبني على أساس الحرية والتسوية، السر عسكر الكبير أمير الجيوش الفرنساوية بونابرته، يُعّرف أهالي مصر جميعهم... قد قيل لكم، إنني ما نزلت بهذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم، فذلك كذب صريح، فلا تصدقوه، وقولوا للمفترين إنني ما قدمت إليكم إلا لأخلص حقكم من يد الظالمين، وإنني أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه وتعالى، وأحترم نبيه والقرآن العظيم.
أيها المشايخ والقضاة... قولوا لأمتكم أنّ الفرنساوية هم أيضا مسلمون مخلصون، وإثبات ذلك أنهم قد نزلوا في رومية الكبرى وخربوا فيها كرسي البابا الذي دائما يحث النصارى على محاربة الإسلام... طوبى ثم طوبى لأهالي مصر الذين يتفقون معنا بلا تأخير فيُصلح مالهم وتُعلى مراتبهم، طوبى أيضا للذين يقعدون في مساكنهم غير مائلين لأحد من الفريقين المتحاربين... لكن الويل كلّ الويل للذين يعتمدون على المماليك في محاربتنا، فلا يجدون بعد ذلك طريقا إلى الخلاص ولا يبقى منهم أثر".
كان هذا هو نص بيان الإمبراطور الفرنسي، نابوليون بونابارت، للمصريين في بداية احتلاله لمصر عام 1798، كما أورده المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي، في كتابه "عجائب الآثار في التراجم والأخبار".
بعد جريمة إحراق "سيئ الذكر" للقرآن الكريم أوّل أيام عيد الأضحى أمام أكبر مسجد في دولة السويد التي منحته تصريحاً، وحرست فعلته الشنعاء بشرطتها، بل واعتقلت كلّ من حاول منعه، كما فعلت من قبل مع "سيئ ذكرٍ" آخر، كان من الطبيعي والمتوّقع أن يدين ويشجب هذا الفعل كلّ الدعاة والمشايخ والمؤسسات الدينية، وكذلك حكومات الدول الإسلامية. لكن، اللافت كان مشاركة شخص مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (وهو رئيس دولة مسيحية عظمى في نهاية المطاف)، في مظاهر الاحتجاج والتنديد، ليس فقط ببيان رسمي من حكومته ولكن أيضا باحتضانه مصحفاً شريفاً في أحد مساجد روسيا، في مشهد "هوليودي" مؤثر قائلا: "روسيا تكنّ احتراما شديدا للقرآن ولمشاعر المسلمين الدينية، وعدم احترام هذا الكتاب المقدس في روسيا جريمة".
لاقى هذا الموقف تأييداً واسعاً من عوام المسلمين في روسيا وخارجها، والذين وجدوا أخيراً، دولة قوية تدافع عن قضاياهم.
بونابارت وهتلر وبوتين… قتلة مجرمون، سفكوا من دماء الأبرياء (مسلمين كانوا أم غير ذلك) ما سفكوا، ومهما ادّعوا من احترامهم الإسلام ورموزه، فإنّ هذا لن يغيّر من الحقيقة في شيء
الحفاوة لم تقتصر على عوام الناس، بل امتدت لشيخ الأزهر أحمد الطيب، الذي أشاد في بيان رسمي بموقف الرئيس الروسي "الشجاع" ضد الهجمات المتكرّرة على "الرموز الإسلامية".
ذكرني هذا الموقف بما ورد في التاريخ الشعبي المصري عن احتفاء المصريين بانتصارات الزعيم النازي، أدولف هتلر، إبان الحرب العالمية الثانية على بريطانيا العظمى حينها، وهي التي سامت المصريين سوء العذاب والقتل في ثورة 19 وبعدها، حتى أنّ مفتي فلسطين حينها الحاج أمين الحسيني زار هتلر الذي احتفى به كمناضل عربي بارز وجعله يتفقد معسكرات الجيش الألماني.
ربما كان للحسيني وجهة نظر معقولة في تحالفه مع الألمان ضد بريطانيا التي كانت تحتل بلاده حينها، والتي كانت تدعم عصابات اليهود في عملياتها التخريبية بعد أن أعطتها وعد بلفور المشؤوم في إقامة دولتهم على أرض فلسطين، لكن ما هي وجهة نظر شيخ الأزهر الآن في الاحتفاء بموقف بوتين الذي قتل طيران بلاده 9 أبرياء في محافظة إدلب السورية قبل "احتضانه للمصحف" بـ4 أيام فقط؟!
هل حكومة السويد أكثر عداءا للمسلمين من حكومة روسيا؟!
لماذا لم تنتفض نفس "الرموز" الإسلامية عند إيداع الأطفال في دور رعاية بعيدا عن أهلهم، علماً أنهم يتعرّضون لاعتداءات جنسية أحياناً، كما تشير تقارير إخبارية، منها سويدية؟ وهل حرق كتاب مكتوب فيه آيات القرآن الكريم التي أنزلها الله عز وجلّ على رسوله الكريم (صلى الله عليه وسلم) مطبوع منه مليارات النسج، أهم من الإنسان الذي يؤمن به؟!
ربما لن تجد إجابة شافية على هذا السؤال إلا عند الذي نزلت عليه تلك الآيات، في الحديث الذي صحّحه الألباني عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، حين قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة، ويقول: ما أطيبك، وأطيب ريحك! ما أعظمك، وأعظم حرمتك! والذي نفس محمد بيده، لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك، ماله، ودمه (أخرجه ابن ماجه).
نعم، إنّ الإنسان في الإسلام أعظم وأهم من الكعبة التي لا يوجد منها إلا نسخة واحدة فقط، وحفاظ الإنسان على حياته أهم، حتى ولو كان ثمن ذلك هو سبّ الإسلام ونبيه الكريم، كما حدث عندما اضطر الصحابي الجليل عمار بن ياسر رضي الله عنه، أن يسبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، تحت وطأة تعذيب كفار قريش له، فما كان من الرسول الكريم إلا أن قال له "إن عادوا فعُد" وأنزل الله تعالى قوله: "إِلَّا مَن أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ".
بونابارت وهتلر وبوتين (وربما غيرهم)، قتلة مجرمون، سفكوا من دماء الأبرياء (مسلمين كانوا أم غير ذلك) ما سفكوا، ومهما ادّعوا من احترامهم الإسلام ورموزه، فإنّ هذا لن يغيّر من الحقيقة في شيء، لكن الإنسان حين تنسحق كرامته تحت وطأة الظلم والجهل، يعتقد أنّ مصدر كرامته الوحيد هو الرمز الذي يتبعه وليست نفسه التي بين جنبيه، بالرغم أنّ الله تعالى هو القائل في كتابه الكريم "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ"، ولا يعني هذا بالطبع ألا ننتفض ضد إهانة مقدساتنا بكلّ ما أوتينا من وسائل، لكن مع علمنا أنّ الشيء المقدّس الذي أُمرنا فعلاً بالعناية به وحفظ كرامته هو أنفسنا التي بين جنبينا، وأنّ ما يستحق أن نفديه بالروح والدم هو أيضاً روح ودم آخر.. ربما لم يدرك أغلبنا ذلك لكن أدركه جندي في جيش المسلمين الذي ذهب لفتح بلاد فارس، حين سأله قائد جيشها عن سبب مجيئهم، فقال: "الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام".
إذن، إنّ الأمر كلّه متعلّق بالإنسان (حريتة، رخاءه، عدالة تحكمه)، فهل يذكرك هذا بشيء؟!