الكوجيتو المجروح والهُويّة المجروحة

18 سبتمبر 2024
+ الخط -

ثمّة اتفاقٌ كبيرٌ على أنّ الكوجيتو الديكارتي "أنا أفكر، إذن أنا موجود"، يمثِّل نقطةَ انطلاق الفلسفة الحديثة، لأنّه يؤشِّر للحظةِ تأسُّس الفلسفة على الأنا أو الذات الإنسانيّة، وليس على كينونةٍ أو كائناتٍ ميتافيزيقيةٍ أو لاهوتيةٍ، غير إنسانيّة. وعلى الرغم من ديكارتيّة وتأسيسيّة هذا "الكوجيتو"، فقد ظهرت، لاحقًا، صيغٌ أخرى للكوجيتو، بوصفه اللحظة التأسيسيّة، أو الصخرة الأرخميديسيّة، للفلسفة: فنيتشه قال بكوجيتو مُضاد تمامًا للكوجيتو الديكارتي "أنا أفكر، إذن انا غير موجود"؛ وهوسرل شدّد على ارتباطِ الكوجيتو بالخبرة المعيشية؛ وهايدغر قال بأوليّة وأولويّة الكينونة على (ذات/ كوجيتو) الكائن؛ وسارتر قال بالعدم الذي يسبق الأنا ويكون، دائمًا محايثًا لها؛ وميرلوبونتي شدّد على جسديّة الكوجيتو وكون الجسد مكوّنًا له أو للأنا (أفكر) مثلما هو حال الفكر؛ ودولوز قال بأوليّة أو أولويّة الاختلاف والفوضى والخلل والاضطراب، وليس المُماثلة والنظام المستقر والأنا الواثقة من نفسها في الكوجيتو الديكارتي؛ وفوكو شدّد على تاريخانيّة الكوجيتو أو الأنا، وعلى أنّها حصيلة ممارسات وخطابات ومؤسّسات اجتماعيةٍ، ولاكان استند إلى نيتشه وفرويد، وقال قولته الشهيرة: "أنا أفكر حيث لا أكون، لذلك أنا موجود حيث لا أفكر". وأنطونيو داماسيو قال بالكوجيتو البيولوجي "أنا أشعر/ أحس، إذن أنا موجود".

في كتابه "صراع التأويلات"، أشار بول ريكور إلى ثلاثة فلاسفة كبار، هم ماركس ونيتشه وفرويد، بوصفهم شُرَّاحاً للإنسان الحديث، وأوضح أنّ كلًّا منهم قد وجَّه، بطريقته الخاصَّة، نقداً شديداً إلى الكوجيتو الديكارتي أو وَهْم الوعي المباشر للذات بذاتها؛ فأكَّدوا، جميعًا، ضرورة القيام بنقدٍ تدميريٍّ لأوهام الوعي وأكاذيبه. وهذا العمل الهدَّام ليس إلا وجهاً من وجوه مشروعهم الهادف إلى إعادةِ بناء الوعي، والمعنى، والحقيقة، من جديدٍ. وللوصول إلى هذه الحقيقة، وهذا الوعي بعد النقديِّ، ابتكر كلُّ واحدٍ من هؤلاء الفلاسفة هيرمينوطيقاه الخاصَّة به، التي (بتدميرها أكاذيب الوعي وأوهامه) ترى أنَّ مهمَّتها الأساسيَّة تكمن في الكشفِ عن الحقيقة المحجوبة والكامنة، ورفع الحجاب عنها. وفي شرحه لهذه النقطة الأساسيَّة المشتركة بين من أسماهم ﺑ "معلِّمي الارتياب"، كتب ريكور: "الأساسيُّ هو أنَّ هؤلاء الثلاثة قد أوجدوا، بالوسائل المتوافرة، أي مع أحكام عصرهم المسبقة وضدها، علمًا وسيطًا للمعنى، لا يمكن ردُّه إلى الوعي المباشر للمعنى. وقد حاول ثلاثتهم، على دروبٍ مختلفةٍ، أن يجعلوا طرقهم "الشعوريَّة" في فك رموز المعنى موافقةً للعمل "اللاشعوريِّ" للترميز الذي كانوا يعزونه إلى إرادة الاقتدار، والكينونة الاجتماعيَّة، والحياة النفسيَّة اللاشعوريَّة. فلكلِّ حيلةٍ حيلةٌ ونصف".

تدميرُ الوعي المباشر الزائف وأكاذيبه وتشوُّهاته يهدف بالتحديد إلى توسيع الوعي

فما تنشده مدرسة الشبهة والارتياب، إذن، ليس تدمير الوعي، من حيث هو كذلك. على العكس من ذلك تماماً. فتدميرُ الوعي المباشر الزائف وأكاذيبه وتشوُّهاته يهدف بالتحديد إلى توسيع الوعي. وباختصارٍ، تعتبر مدرسة الارتياب أنَّ الوعي (المباشر) بمجمله هو وعي زائفٌ ومشوَّهٌ؛ ومن هنا تأتي ضرورة الكشف عن هذا الزيف وهذه الأوهام، والعمل على تخليص الوعي وتحريره منها.

وفي كتابه الموسوم ﺑ "الذات عينها كآخر"، عارضَ ريكور، في الوقت نفسه، الكوجيتو الديكارتي ومعارضيه الذين ينكرونه أو ينفون وجود أيّ معنى له، بما أسماه "الكوجيتو المجروح". فعلى العكس من الكوجيتو الديكارتي الواثق من نفسه والقادر على الاتصال بذاته اتصالًا مباشرًا ويقينيًّا، رأى ريكور أنّه ليس ثمّة معرفة مباشرة أو حدسية للذات في علاقتها مع نفسها، وأنّه لكي نستجيب للوصيّة المنقوشة في فناء معبد دلفي اليوناني، والتي استند إليها سقراط في فلسفته، فمن الواجب معرفة الآخر، ومعرفة الذات بوصفها آخر، وإدراك أنّ الذات لا تعرف ذاتها إلا من خلال علاقتها مع الآخر. وفي كلِّ هذه الأحوال، تبقى معرفتنا لذواتنا جزئيّة ونسبيّة وتقريبيّة وغير يقينيّة أو حاسمة أو محسومة. وعلى العكس من المُنكرين للذات، والقائلين بأنّها مجرّد تجريدٍ لا قيمة له، لا نظريًّا ولا عمليًّا، وبأنّه لا وجود لمثل تلك الذات أو ذلك الكوجيتو، يؤكّد ريكور أنّ الذات فعلٌ وليست جوهرًا، أي أنّها تستطيع أن تثبت وجودها وقيمة هذا الوجود وفعاليّته في العالم. فهي ليست مجرّد موضوعٍ للأحداث والأفعال التي يمكن أن تتعرّض لها، بل هي ذاتٌ فاعلةٌ وقادرةٌ على تحمّل مسؤوليّة أفعالها، وينبغي لها القيام بذلك في كلّ الأحوال.

تأسيس أو إعادة تأسيس الوعي أصبح، من الآن فصاعداً، هدفاً منشودًا، ومثلًا أعلى، ينبغي السعي إلى الاقتراب منه قدر المستطاع

ولفهم الكوجيتو (الريكوري) المجروح أو الهش، ينبغي الإشارة إلى أنّ ريكور يبيِّن أنّ نرجسيّة البشر قد تعرّضت لثلاثة أشكالٍ من الإذلال أو الإهانة، من قِبَل العلم: الإذلال الكونيِّ، والإذلال العضويِّ أو البيولوجيِّ، والإذلال النفسيِّ أو السيكولوجيِّ. فبعد كوبرنيكوس، لم تعُدِ الأرض، أو بالأحرى، لم يعُدِ الإنسان مركزاً للكون وسيِّد العالم. ومع داروين، تعرَّضت سيادة الإنسان وسُمُوُّه، بالنسبة إلى الكائناتِ الأخرى، لهزَّةٍ عنيفةٍ، بحيث تمَّ، بشكلٍ كاملٍ تقريباً، ردم الهوّة المزعومة التي تفصل بين طبيعته وطبيعة الكائنات الحيَّة الأخرى. ويتمثَّل الإذلال الثالث للإنسان (الذي قام به التحليل النفسيُّ الفرويديُّ) في أنَّه، مع زحزحة الوعي أو الأنا عن مركز إنتاج المعنى، لم تعدْ هذه الأنا تقوم بدور السيِّد حتَّى في "عقر دارها". "فالإنسان الذي عُرِف سابقاً أنَّه ليس سيِّد الكون، ولا سيِّد الأحياء، اكتشف أنَّه ليس سيِّداً حتَّى على نفسه".

وقد أكَّد ريكور أنَّه يجب على الفلسفة (التفكُّريَّة)، أي الفلسفة التي تتأمل الذات/ ذاتها عمومًا، أن تأخذ، في الحسبان، وعلى عاتقها، في خطابها الخاصِّ، هذا الإذلال الثلاثيَّ الذي تعرّض له الإنسان بشكلٍ عامٍّ، والجرح الذي تعرّض له اعتزازه بنفسه، بسبب التحليل النفسيِّ، بشكلٍ خاصٍّ. ولهذا، كان من الضروريِّ أنْ يصبح التخلّي عن الوعي المباشر خطوةً أولى في الطريق نحو استعادة الأنا. فبدلاً من البداهة المزعومة في الكوجيتو الديكارتي، يصبح السؤال الأساسي متعلِّقاً بصيرورة هذا الوعي أو السعي نحو حيازته. وعلى هذا الأساس، يمكن اعتبار هجران الوعي المباشر، في التحليل النفسيِّ، بمثابة الوجه الآخر من عمليّة استعادته، من طريق تأويل المثولات التمثيليَّة للدافع. ففي هذه المثولات، يظهر التوافق والتطابق، بطريقةٍ قويَّةٍ وجليَّةٍ، بين مسألتي أو بعدي القوَّة والمعنى. لكنَّ تأكيد هذا التوافق، وضرورة التخلّي عن الوعي أو الشعور المباشر. لكن ذلك التخلّي عن الوعي المباشر (الذي لم نعد نستطيع عدُّه معطىً جاهزاً) ليس إلا خطوةً أو مرحلةً في عمليّة استعادة هذا الوعي بواسطة الفعل في العالم وفعل التأويل والسرد. فتأسيس أو إعادة تأسيس الوعي أصبح، من الآن فصاعداً، هدفاً منشوداً، ومثلاً أعلى، ينبغي السعي للاقتراب منه قدر المستطاع.

أصبحت المظلوميّة تجارة مربحة، وتبارت الأطراف المختلفة في اللعب والتلاعب بها، لتحقيق أكبر قدرٍ ممكنٍ من الأرباح

يتقاطع الحديث عن الكوجيتو المجروح، في السياق المعاصر، مع الحديث عن الهُويّات المجروحة، وهي الهُويّات المؤسّسة على مظلوميّاتٍ تاريخيةٍ، والتي تقوم على التغاير والتضاد والتنابذ مع الآخر الظالم. وهذا هو حال الهُويّات والمظلوميّات الطائفيّة والإثنيّة والجنسيّة النسويّة والمناطقيّة... إلخ. لكن، على العكس من الكوجيتو الريكوري المجروح، يبدو أنّ بعض الأطراف التي ترى، بحقٍّ أو من دون حقٍّ، أنّها تنتمي إلى تلك الهُويّات، أو تمثلها وتجسّدها وتعبِّر عنها، تصرّ على أنّها مجرّد مفعولٍ به، وليست فاعلاً، وليست مسؤولةً، جزئيّاً على الأقل، عن ذلك الفعل. فالظالم أو الآخر هو فقط الفاعل والمسؤول، والأنا مجرّد ضحيّةٍ، وموضوعٍ للظلم الذي ينبغي أن يتوقف الآخر عن ممارسته. وبدلًا من أن تكون هناك إمكانيّة وضرورة لأن يكون الآخر مؤسِّسًا إيجابيًّا للذات وهُويّتها، كما هو الحال في الكوجيتو الريكوري المجروح، تصبح تلك الهُويّات المجروحة المؤسَّسة على المظلوميّات، والمؤسِّسة لها، هُويّات فُرقةٍ وتناحرٍ بين طرفين يُنظر إلى أحدهما على أنه خيِّرٌ لأنّه مظلومٌ أو مظلومٌ لأنه خيرٌ، وإلى الآخر على أنّه شريرٌ لأنّه ظالمٌ أو ظالمٌ لأنّه شريرٌ. ولأسبابٍ كثيرةٍ، أصبحت مثل هذه المظلوميّة تجارة مربحة، وتبارت الأطراف المختلفة في اللعب والتلاعب بها، لتحقيق أكبر قدرٍ ممكنٍ من الأرباح، المتمثّل بالحصول على التعاطف و"التمييز الإيجابي" لصالحها، وإلحاق أكبر قدرٍ ممكنٍ من الخسائر، المادية و/ أو بالآخر، الظالم.

وينبغي الحذر من تحوّل أو تحويل الهُويّات المجروحة إلى "هُويّات معذورة"، كما يسميها حازم صاغية، بحيث تعتقد، مع آخرين، أنّها محقّة في كلّ ما تفعله، وغير مسؤولة عمّا تفعله أو يفعله "الآخرون" (بها)، لمجرّد أنّها مجروحةٌ، بحيث يتم، انطلاقاً من هذا الجرح، الفعلي أو المزعوم، تبرير أو تسويغ كلّ أفعال أصحاب تلك الهُويّات وأقوالهم وإعطاؤهم العذر لتبني خطابٍ تمييزيٍّ مُماثل للخطاب التمييزي السلبي الذي (كان) يمارس عليهم. وعلى العكس من فرديّة الكوجيتو، يُفضي الحديث عن الهويّة المجروحة في المجال السياسي إلى إعطاء الأولويّة للجماعة على الفرد وللماضي على المستقبل، وللنسب على الانتساب، وللقدر على المصير. ويمكن لذلك أن يفضي إلى، لا إلى تعزيز نفي مسؤولية الفرد، كلّ فردٍ، فحسب، بل إلى نفي الفرديّة برمتها، والنظر إلى الأفراد على أنّهم مجرّد أعضاء في هُويّةٍ جماعيّةٍ أو جماعاتيّةٍ. وثمّة اختلافٌ أساسيٌّ آخر بين الهُويّة المجروحة والكوجيتو (الريكوري) المجروح، فالأولى حصيلة ماضٍ ليست مسؤولةً عنه، ومرتبطةٌ به ارتباطًا لا يمكن فصمه؛ في حين أنّ الكوجيتو المجروح منفتحٌ على مستقبلٍ يصنعه، أو يسهم في صنعه، بأفعالٍ غائيّةٍ حصيفةٍ يتحمّل مسؤوليتها، في الماضي والمستقبل والحاضر، ويشكّل منها سيرةً لذات فاعلةٍ، رغم أنّها منفعلةٌ بأفعال آخرين وأوضاعٍ قدريةٍ، وخاضعةٌ، جزئيًّا، لها.

فإلى أي حدٍّ يمكن نقد أو انتقاد (بعض) تنظيرات الهُويّات المجروحة وممارساتها، في خصوص (عدم) إقرارها بالمسؤوليّة الفرديّة للجماعات أو المجموعات التي تُحيل عليها، وللأفراد المنسوبين أو المنتسبين إلى تلك الجماعات أو المجموعات؟ في تدوينتي القادمة، سأعطي مثالًا (نموذجيًّا) أو أكثر على حالة إنكارِ المسؤوليّة لدى بعض "ممثلي الهُويّات المجروحة".

حسام الدين درويش
حسام الدين درويش
باحث ومحاضر في الفلسفة والفكر العربي والإسلامي. يعمل باحثاً في مركز الدراسات الإنسانية للبحوث المتقدمة "علمانيات متعددة: "ما وراء الغرب، ما وراء الحداثات" في جامعة لايبزغ، ومحاضراً في قسم الدراسات الشرقية، في كلية الفلسفة، في جامعة كولونيا في ألمانيا. حائز على شهادة الدكتوراه من قسم الفلسفة في جامعة بوردو ٣ في فرنسا. صدر له عدد من الكتب والمؤلفات، وينشر باللغتين العربية والانكليزية. يعرّف عن نفسه بالقول "لكلّ إنسان صوت وبصمة، ولكلّ شيء قيمة ومعنى".