المخطط الصهيوني الأكبر: المسعى الغربي لتقييد الشرق
اكتفت أميركا منذ عدوانها على فيتنام من التدخل المُباشر في الحروب والصراعات، باستثناء منطقة الشرق الأوسط، كما حدث مع العراق مطلع القرن الحالي. لكن، عقب الخسائر التي لحقت بها، في العراق وأفغانستان، أطلقت مُدللتها أو حارستها (أو بلغة روجيه غارودي ضابطها الخاص) إسرائيل، لتعبث في الشرق الأوسط، وتقوم نيابة عنها، بكلّ ما يخدم المصالح الأنجلو أميركية التوسعية في تلك المنطقة المُشتعلة.
نشرت مجلة "كيفونيم" الإسرائيلية، في العدد الـ14 عام 1982، مقالًا للمُنظمة العالمية الصهيونية بالقدس؛ وقد أَدرَج ذلك النص الباحث الفرنسي روجيه غارودي في كتابه المعنون "ملف إسرائيل - دراسة للصهيونية السياسية". يحتوي نص المقال مخطّطًا إسرائيليًا أميركيًا لتفتيت وتشتيت كلّ ما هو قائم في الأوطان العربية. وهنا لا نتحدث عن صيغة تآمرية، ولا لسان ماسوني؛ فالمؤامرة أمر مستور، غير مكشوف، أما تلك الخطة؛ فهي لا ترقى إلى أن تكون مؤامرة، بل هي سياسة مُتبعة ومُمنهجة منذ نشأة ذلك الكيان الصهيوني، لكن البعض غفلوا عنها، حتى بدت تظهر في السنوات الأخيرة.
أصبحت مصر جثةً هامدة
يبدأ المقال بالسعي نحو تحقيق حلم "إسرائيل الكُبرى"، وذلك من خلال الاستيلاء على سيناء مصر: "استعادة سيناء بثرواتها هدف ذو أولوية، ولكن اتفاقات كامب ديفيد (عام 1978م) تحول الآن بيننا وبين ذلك. لقد حُرمنا البترول وعائداته، واضطررنا إلى التضحية بأموال كثيرة في هذا المجال، ويتحتم علينا الآن استرجاع الوضع الذي كان سائدًا في سيناء قبل زيارة السادات المشؤومة وقبل الاتفاقية التي وقعت معه في 1979".
اللافت أنّ الصهيونيين أنفسهم يرفضون اتفاقية كامب ديفيد، ويصفونها بالشؤم، إذ حالت بينهم وبين استيلائهم على سيناء. يسرد المقال خطة تقسيم مصر المُستقبلية بناءً على أزماتها الاقتصادية والاضطرابات السياسية وخلق الفتن والنعرات بين مواطنيها:
"الوضع الاقتصادي في مصر، وطبيعة النظام الموجود بها، وسياساتها العربية، كل هذا سيؤدي إلى مجموعة ظروف تدفع بإسرائيل إلى التدخل. فمصر، بسبب نزاعاتها الداخلية، لم تعد تشكل بالنسبة إلينا مُشكلة استراتيجية، ومن السهل أن نجعلها تعود خلال 24 ساعة إلى الوضع الذي كانت عليه بعد حرب يونيو 1967، لقد ماتت أسطورة مصر (زعيمة العالم العربي)، وفقدت 50% من قدرتها. ونستطيع بعد أجل قصير أن نستفيد من استرجاع سيناء، ولكن ذلك لن يُغير من ميزان القوى. وكبناء موحد، أصبحت مصر جثةً هامدة، وبخاصة إذا أخذنا في الاعتبار المُجابهة المُتزايدة والمُتصاعدة بين المسلمين والمسيحيين بها. ويجب أن يكون هدفنا تقسيمها إلى أقاليم جغرافية متباينة. فإذا ما تمت تجزئة مصر، وإذا فقدت سلطتها المركزية، فلن تلبث بلدان مثل ليبيا والسودان، وبلدان أُخرى أبعد من ذلك، أن يُصيبها التحلل. وتشكيل حكومة قبطية في مصر العُليا، وإقامة كيانات صغيرة إقليمية، هو مفتاح تطور تاريخي يؤخره حاليًا اتفاق السلام (كامب ديفيد)، ولكنه تطور آتٍ لا محالة على الأجل الطويل".
اللافت أنّ الصهيونيين أنفسهم يرفضون اتفاقية كامب ديفيد، ويصفونها بالشؤم، إذ حالت بينهم وبين استيلائهم على سيناء
سورية ممزقة ولبنان نموذجًا
ينتقل المقال بعد ذلك إلى الجبهة اللبنانية، فالسورية، وخطط التقسيم التي باتت واقعًا في أيامنا هذه، بعد أربعين سنة على كتابة ذلك المقال بمُخططاته المُعلنة:
"ومشكلات الجبهة الشرقية (لبنان، سورية، الأردن والعراق) أشد تعقيدًا من الجبهة الغربية (مصر)، وهذا على عكس ما يبدو الظاهر. وتقسيم لبنان إلى خمسة أقاليم يوضح ما يجب أن يُنفذ في البلدان العربية، وتفتيت العراق وسورية إلى مناطق تُحدد على أساس عنصري أو ديني، يجب أن يكون هدفًا ذا أولوية بالنسبة إلينا، على الأجل الطويل، وأول خطوة لتحقيق ذلك، تدمير القوة العسكرية لتلك الدول.
والتشكيل السكاني لسورية يُعرضها لتمزق قد يؤدي إلى إنشاء دولة شيعية على الساحل، ودولة سنية في منطقة حلب، وأُخرى في دمشق، وإنشاء كيان درزي قد يرغب في أن يتحول إلى دولة على أرض الجولان التابعة لنا؛ تضم الحوران وشمال المملكة الأردنية.. ومثل هذه الدولة ستكون على المدى الطويل ضمانًا لأمن وسلام المنطقة، وهذا هدف في متناولنا فعلًا تحقيقه".
العراق والأردن
وقد كان للعراق والأردن نصيب من ذلك المُخطط:
"أما العراق، فهو غني بالبترول، وفريسة لصراعات داخلية، وسيكون تفككه أهم بالنسبة إلينا من تحلل سوري، لأن العراق يُمثل على الأجل القصير أخطر تهديد لإسرائيل. وربما ساعدت الحرب العراقية الإيرانية على ذلك الانحلال والضعف في صفوف العرب".
والأردن هدف استراتيجي في التو واللحظة. ولن يُشكل أي خطر لنا على الأجل الطويل بعد تفككه ونهاية الحكم الملكي وانتقال السلطة إلى أيدي الأغلبية الفلسطينية، وذلك أمر يجب أن يسترعي انتباه السياسة الإسرائيلية، فمعنى هذا التغير حل مشكلة الضفة الغربية ذات الكثافة السكانية العربية الكبيرة. فهجرة هؤلاء العرب شرقًا (إلى الأردن) – إما بالسلم وإما بالحرب – وتجميد نموهم الاقتصادي والسكاني، هي الضمانات الأكيدة للتحولات المُقبلة، وعلينا أن نبذل جهدنا للإسراع بتلك العملية.
وينبغي رفض خطة الحكم الذاتي (وهي الخطة التي أدت فيما بعد إلى معاهدة أوسلو، التي سمحت بإقامة حكومة فلسطينية بحدود جغرافية في الضفة الغربية، تحت مرأى ومسمع وإشراف الكيان الصهيوني) وأية خطوة أُخرى تتضمن حلًا وسطًا أو تعايشًا، تصبح بالتالي عقبة في سبيل فصل الأمتين (العربية واليهودية).
ويجب أن يفهم العرب الإسرائيليون (يقصد فلسطينيي الداخل) أنه لا يُمكن أن يكون لهم وطن إلا في الأردن، ولن يعرفوا الأمن إلا بالاعتراف بالسيادة اليهودية على كل ما يقع بين البحر ونهر الأردن".
ختامًا:
انتهى الاقتباس من ذلك النص المطول، وعليه نقول: إن على شعوبنا وحكوماتنا العربية أن تنتبه لمساعي الكيان الصهيوني، الذي أجاد لعب دور الضحية على المستويين العالمي والدولي، وهو في حقيقته يُشكل خطرًا دائمًا على جيرانه من العرب، بل وعلى نفسه، إذ هو الأكثر عرضة إلى التحلل والتآكل، نتيجة لسياساته العنصرية (مثيلة الأبرتهايد في جنوب أفريقيا)، وتدهور الأوضاع الاقتصادية هناك؛ فإسرائيل دولة تعيش على المعونات الأميركية، إذ لا يكفي ناتجها المحلي لسدّ حاجاتها، فتقدم أميركا إليها المعونات على شكل منح وقروض لا تُسدد، كل ذلك بغرض تمرير السياسات الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، فقد أصاب القائل: إن إسرائيل هي الولاية الـ 51 لأميركا.
في الأخير، نخلص إلى أن بعض تلك المُخططات قد تحقق، بالأخص، بعد إرهاق أوطاننا في حروب عبثية لا طائل منها، ناتجة من سياسات خرقاء، كالحرب العراقية الإيرانية، أو حرب الخليج، كما جاء الربيع العربي، على هوى المخطط الإسرائيلي، والذي انتهى بتفكك كل من سورية وليبيا واليمن كذلك، والآن نشهد تفكك السودان، من بعد العراق وسورية ولبنان، ولم يبقَ الدور إلا على مصر والأردن.