المرونة الفكرية ضرورة وخاصة بعد السقوط
أشارك ابني الصغير لعبة على ورق "x&o"، نرسم تسع خانات مربعة، ونملؤها بالحروف، كل لاعب يأخذ حرفاً، من يكوّن ثلاثة مربعات متتالية بالطول أو العرض أو بالتقاطع فهو الفائز.
أفوز مرة وأخرى، يغضب صغيري ويضرب رأسه بكفي يديه، أبلغته ببعض الحيل لكي يكسب وحيلتي في ترتيب الخانات، وحاول مرات أخرى، لم أكسب أنا ولم يكسب هو، انتهت الخانات دون أن يكسب أحد، فأبلغته أن عليه المبادرة والهجوم وتغيير خطته في اللعب، اتسعت حدقة عينه وبدى أكثر تيقظاً، وأخيرا فاز وأصبح قادرا على مجاراتي في اللعبة دون أن أيسر الأمر عليه.
ما حدث أنه جرب وفشل، وتعلم دروس الصد والتخطيط، وغير خطته في اللعب، إلى أن نضج وأصبح قادرا على الفوز والخسارة.
جميعنا نحتاج لدروس من الحياة، نسقط في بئر الفشل وعدم النضج والاتزان، تسيطر علينا السرعة والشجاعة والاندفاع في صغرنا، وترمينا الحياة بطول ذراعيها إلى أن نسقط، نحاول الوقوف مرة أخرى، ونعيد نفس التجارب، ولكن نسلك طرقا مختلفة والحكمة تسيطر علينا ونتخلى عن اندفاعنا، نرى ونتعلم من تجارب الآخرين إلى أن نصل.
والعيب أن نسير في نفس الطريق الذي سقطنا فيه دون الوعي لمخاطره، ومن غير أدوات تزيد من قوتنا وتساعدنا على العبور. يقول الفيلسوف كونفوشيوس: "أعظم مجد لنا ليس في السقوط أبدا، إنما في النهوض كل مرة نسقط فيها".
هكذا كانت أفكاري ومعتقداتي تغيرت مع التجارب، وكثرة السقطات، تعلمت أن أسلك طريقاً آخر وأتخلى عن اندفاع وتهور العشرينات، وأصبحت أكثر اتزانا، ربما أخطئ، ولكن الأكيد أن السقوط لن يكون صعبا مثل المرات السابقة.
لجأ منديلا للخيار العسكري بعد تجربة الخيار السلمي، لم يكن مناسب لطبيعة المكان، ولكن التجارب والسقطات هي التي أدت لتغيير السياسات، والتشبث بطريق واحد بعد تكرار السقطات ليس جدارة، ربما يعد حماقة من صاحبه
المرونة الفكرية ضرورية دون التخلي عن الثوابت، نضرب لذلك مثالا بالإمام محمد بن أدريس الشافعي، صاحب المذهب الشافعي، فقد غير آراءه الفقهية في عدة مسائل بناء على تغير مكان الفتوى، أصدر فتاوى فقهية في العراق وأصدر فتاوى مغايرة لها بعد وصوله إلى مصر، الفتاوى القديمة التي صدرت في العراق جمعها في كتاب "الحجة"، وهو ما يطلق عليه "القديم"، والفتاوى الجديدة التي أصدرها في مصر جمعها في كتاب "المبسوط".
وقال الشافعي عن تغيير فتاويه "لا أجعل في حل من روى عني كتابي البغدادي"، فمع الاجتهاد وتطور العلم والتجارب وتغير المكان، قد تتغير الآراء والأولويات دون التخلي عن الثوابت.
أيضا نيلسون مانديلا، الرئيس السابق لجنوب أفريقيا، عاش حياة مليئة بالعثرات والإخفاقات في المقاومة، والسجن، والتفاوض، الذي أنهى به حياته مع الرئيس السابق له فريدريك ويليام دي كليرك، على إجراء أول انتخابات متعددة الأعراق في البلاد، وأجريت انتخابات ديمقراطية، وفاز فيها منديلا ليصبح أول رئيس أسود البشرة في تاريخ جنوب أفريقيا، وفاز على أثرها بجائزة نوبل للسلام نظير عمله لإنهاء نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.
قبل ذلك، كان مانديلا مؤمنًا بالخيار السلمي، لذلك قاد حركات الاحتجاج والنشاطات السلمية ضد الحكومة وسياساتها العنصرية، واعتقلته الحكومة مع آخرين، ووجّهت لهم تهم الخيانة العظمى، وفي ذات الوقت، كان حزب المؤتمر الوطني الأفريقي يعاني انقسامًا داخليًا نظرًا لأن بعض أعضائه كانوا يرون أن النشاطات السلمية لم تعد مجدية في وجه سياسات القمع والتعسف للحكومة.
بعدها، حدث تحول في وجهة نظر مانديلا، واعتنق الفكرة القائلة بأن الكفاح المسلح هو السبيل الوحيد لتحقيق التغيير المنشود، فشارك مع غيره من المناضلين في تأسيس الجناح المسلح لحزب المؤتمر الأفريقي، والمعروف باسم "أومكونتو وي سيزوي" كذلك، قاد مانديلا في ذات السنة إضراب العمال الذي استمر ثلاثة أيام، فاعتقلته السلطات وحُكِم عليه بالسجن مدة 5 أعوام، ولكن أعيدت محاكمته مرة أخرى سنة 1963، وحكم عليه بالسجن مدى الحياة.
أمضى مانديلا في جزيرة روبن 18 عامًا من سنين سجنه البالغة سبعًا وعشرين، نُقِل مانديلا إلى سجن بولسمور، وعرض الرئيس بيتر ويليام بوتا Pieter Willem Botha الإفراج عن مانديلا مقابل تخليه عن الكفاح المسلح، ولكنه رفض ذلك.
توالت جلسات التفاوض بين الحكومة ومانديلا دون تحقيق أي اتفاق حتى تاريخ 11 فبراير/شباط 199،1عندما أُعلن عن إطلاق سراح مانديلا وإلغاء أحكام الإعدام في البلاد، فضًلا عن إزالة جميع القيود المفروضة على الأحزاب السياسية، بما في ذلك حزب المؤتمر الوطني الأفريقي.
لجأ منديلا للخيار العسكري بعد تجربة الخيار السلمي، لم يكن مناسبا لطبيعة المكان، ولكن التجارب والسقطات هي التي أدت لتغيير السياسات، والتشبث بطريق واحد بعد تكرار السقطات ليس جدارة، ربما يعد حماقة من صاحبه.