المهمل والمنسي.. هو ما أشيد به عالمي
كلّ ما هو كبير وهائل وعظيم تنفر منه نفسي، أمنحه ظهري، بينما أبحث في الأرض العادية جداً، عن الدقائق والمهملات والمتلاشيات. العظمة أتركها للعظماء الذين سينتهون دون شك داخل ذرّات هذه الأرض التي أحدّق في ترابها باستمرار، وبدهشة. سينتهون مضحكين للغاية، ومن دون أيّ عظمة تذكر.
حتى الفقراء والبسطاء، كان بإمكانهم دائماً (مثلاً) الرثاء لحال هرقل. يقولون: "المسكين، لقد انتهى نهاية محزنة، المسكين لقد مات. كان قوياً وعظيماً وأسطورياً... إلا أنّه مات للأسف...". يقولون هذا ويواصلون حياتهم، بينما يواصل هو تحلّله تحت الأرض، وداخل النصوص، عاجزاً عن تحريك فقرات هيكله العظمي. يضيف أحدهم: "لقد مات هرقل المسكين.." ثمّ ينحني لالتقاط بلوطة، يضغط عليها بين فكيه، وبالصدفة يجد أنها حلوة، فينسى هرقلا وأهل هرقل، بسبب بلوطة حلوة ينسى العظمة والعظماء وينسى كل شيء...
ما أحببته دائماً، ليس هو العمران العملاق، ليس العمارات وناطحات السحاب ومقرات الشركات الكبرى وقصص البطولات والأبطال، بل الآثار فقط، بقايا الحضارات، الأسوار الكبيرة التي نخرتها الريح وهدّها الزمن، قبور الملوك والسلاطين أكثر من الملوك والسلاطين، الشواهد على قبورهم أكثر من سير حيواتهم...
زرت شالة (موقع أثري في العاصمة المغربية الرباط) مراراً، وجلست على حواف قبور المرينيين (نسبة لدولة بني مرين)، شاعراً بنوع من الغبطة الغريبة، أن يضطجع ملك تحت التراب، بينما تستطيع أنت الجلوس فوق قبره لتدخين سيجارة وتأمّل اللقالق تحطّ فوق أعشاشها على الأبراج المهجورة. تدخن أنت سيجارة، بينما الملك المريني عاجز عن النداء على حرسه وحاشيته لطردك. تقول في نفسك وأنت تنفخ الدخان في اتجاه شاهدة القبر: "أيّنا الملك الآن يا عزيزي الملك؟ هيا أجب. كن ملكاً كما كنت دائماً وأجب...".
قبور الملوك والسلاطين أهم من الملوك والسلاطين، الشواهد على قبورهم أكثر من سير حيواتهم
تقرأ على الشاهدة: "هنا يرقد السلطان أبو الحسن المريني الفقير إلى الله.."، ثم تجول ببصرك بتقاعس شديد وسط المقبرة المتواضعة التي يسكر فوق قبورها بعض المتشرّدين أحياناً، فترى قبر السيدة شمس الضحى المرينية، زوجة أبي الحسن المريني. شمس الضحى الجارية الرومية البشكنشية (نسبة لإقليم الباسك) المليحة التي تسرّى بها السلطان فأنجبت له سلطاناً رضيعاً، هو أبو عنان المريني. تُجيل بصرك في هدوء المكان، فتجد أنّ العائلة السلطانية كلها هناك، تحت الأرض، والزمن قد مرّ بطيئاً وقاسياً، ودون أيّ تسلية سلطانية تذكر، والسلاطين ما زالوا عالقين هناك في انتظار النجدة، في انتظار المدد والغوث...
تقذف عقب سيجارتك بعيداً بحركة سينمائية وتنهض لتبتعد ببطء، عاقداً يديك خلف ظهرك وعلى عينيك نظارة سوداء. "شمس الضحى" اسم جميل تقول في نفسك، ثم تترنم بذلك الموّشح الأندلسي الرائق: شمس العشي قد غرّبت واستعبرت عيني من الفرقا... على الشفق قد سطرت حين غُيّبت...يا شمس العشية أمهل لا تغب بالله رفقا..هيجت ما بيَ.. حتى زدتني في القلب شوقا..".
...
الرثاء، الرثاء، الرثاء فقط. إنه روح الفن. رثاء كبير وأبدي لكلّ ما مرّ وما سيمر. ذلك الرثاء الصامت والصارم في الكلمات، كما في الموسيقى، كما في باقي الفنون. حتى الاحتفالات الفنية والملاحم الكبرى والأفراح والرقص وقصص الحب الناجحة واستقبال ضوء النهارات بالزهور وماء الورد والبخور... كلها ليست سوى رثاءات غير محدودة في الزمن والمكان. رثاءات بسيطة ومتواضعة للعظَمة (بفتحة فوق الظاء) التي تصير عظْمة (بسكون فوق الظاء)، للأسوار التي أكلتها أرضة التاريخ، للأبراج التي حفرت الفئران أساساتها حتى أسقطتها، وللصروح الحديثة القوية التي هيّأها الإنسان من جديد، طعاماً لجوع الزمن وسخرية من المستقبل.
أمشي على الحافات فقط، على السواحل النائية، محدقاً في الغيوم والسحاب والطيور، قريباً من الطبيعة، مصغياً إلى لغتها في وشوشاتها وزقزقاتها وطنينها وخريرها وحفيفها وهديرها وهزيمها وصمتها المطبق. أعانق الأشجار وأشمّ جذوعها القديمة بعمق. أركل الأرض بمقدمة حذائي أو أحفرها بعصا الراعي الذي لا يملك قطيعاً ولا نبوءة، باحثاً عن بقايا القصص في أجسادٍ تحوّلت إلى ترابٍ، منقباً داخل محارة فارغة أو هيكل عظمي لعصفور أو أثر لإنسان عن حكاية كانت هنا ذات يوم، قبل أن تذروها الريح. منقباً في أعماق الأرض عن كنزٍ مفقود، راصفاً الكلمات على شكل رثاءات فوق الأوراق، رثاءات للعظمة المسكينة التي تحوّلت إلى عظام..
كل ما هو هامشي فقط، ومنسي ومهمل ومتلاش، هو ما أشيد به عالمي. عالم خاص بي جداً، قريب إلى ذاتي في حقيقتها، بعيد عن الضجة والأوهام، مستعداً باستمرار، بوضوح وبتصالح كبير مع الذات ومع الطبيعة، للزوال، دون أي عظمة تذكر سوى عظمة الفن.