انتحارات عسلِية
أجبتُ في الامتحان بتفوّق. أستاذة العلوم الطّبيعيّة تكره العلوم الطّبيعيّة. رأيناها مرارًا تُخرج من حقيبتها الصّغيرة دواءً، وتشربه بانتظام مع كأس ماء يملأه لها أحد الطلاب الكُسالى.
هي تكره المجتهدين، تصفعهم حين يجتهدون، أو تُمسكهم من آذانهم الطويلة وتديرها كنجّار يدير برغيًّا. نصحتنا طيلة السّنة بالانتحار في سنّ الثّلاثين. قالت إنها هي، أيضاً، ستفعل ذلك، بعد سنتين. شرحت لنا فوائده ومزاياه الكثيرة، وطُرقه، بالقفز فجأة من سقف عمارة كالمظلّيّين، أو من النّافذة، أو بِحَزِّ الوريد بشفرة حلاقة بعد تعقيمها بالنّار، أو بأكل السُّمِّ مع الكيك بالشّوكولاتة والعسل، أو بشرب علبة منوّم، أو فقط بنسيان قنّينة الغاز مفتوحة عمدًا، ثمّ النّوم عميقًا، نومًا هنيئًا، وإلى الأبد، دون أحلام، ودون كوابيس.
عوض أن توزّع علينا رسومًا تخطيطيّة توضّح مراحل تشريح ضفدعة، أو مقطعًا جيولوجيًّا لهضبة زَعِيرْ (الرباط بُنيت على هضبة اسمها زعير)، وزّعت علينا صورًا بالأبيض والأسود لمنتحرات ومنتحرين مشهورين/ات.
بعضُ التّلاميذ المجتهدين أرادوا التّبليغ عنها لدى الإدارة، طرقوا باب مكتب المدير طرقات خجولة، ثمّ فتحوا الباب ودخلوا مُطأطئين رؤوسهم، ومبتسمين في الطّأطأة بفرح الوشاية. وجدوا المدير واضعًا على مكتبه صينية تحوي، تقريبًا، نصف كيلو من "السّْفْنْجْ" (فطائر مغربية تُقلى بالزيت)، وعلى يمينه كأس شاي مُنعنع، يصعد منه البخار حتّى يصل إلى السّقف، ويتحوّل إلى قطرات مطر باردة تسقط فوق صلعته. تدافعوا أمامه كخراف تتشجّع كي تعبر نهرًا، تجرّأ أحدهم وقال عن الأستاذة، إنّها تفعل كذا وكذا وكذا.
كانت يدا المدير ملطّختين بالكامل بزيت "السّفنج"، وربطة عنقه حمراء، جميلة، تتجاوز حزام سرواله بمسافة كيلومترين على الأقلّ بعد أن تتعرّج فوق هضبة بطنه. نهض ومشى في اتّجاه التّلميذ الّذي تجرّأ أوَّلاً وقفز في الماء. بدا المدير كتمساحٍ عائدٍ إلى البركة بعد أن تشمّس، صفع التّلميذ حتّى ظهر له البرق، ثمّ صفع تلميذًا آخر حتى ظهر له قوس قزح، وتوالى الصّفع بانتظام موسيقي داخل الغرفة الصّامتة، الجميلة، المزيّنة، بمكتبة مليئة بالموسوعات، وحشرات محنّطة، ولوحات على الجدران لصفّ أشجار صنوبر بعيدة، وخريطة فوق المكتب على شكل كرة أرضيّة بلون أزرق بحريّ هادئ. وفي النهاية، لَطَّخَتْ يَدُهُ وجوههم بالزّيت، وظهرت لهم نجوم وهميّة.
آمنت بجمالها اليانع ككمثرى، وبنظريتها العسلية حول الانتحار، وأخذت أنتظر بشغف أن أصل إلى سنّ الثلاثين كي أطبّق نظريتها
صرخ بهم: أيّها الأوغاد، الأستاذة تبذل قصارى جهدها لتعلّمكم العلوم الطّبيعية كي تنجحوا وتصيروا مهندسين وأطبّاء وقُضاةً، وأنتم لا تُجيدون سوى تحويل أوراق الدّفاتر إلى صواريخ وزوارق، والنّوم العميق أثناء الدّرس، واللعب بأجهزتكم التناسلية المُسيّخة خلف الطاولات، والآن جئتم لتفتروا على المدرّسة وعيونكم جاحظة كعيون الأرانب؟؟! هيّا، اغربوا عن وجهي... طردَهم شرَّ طردة، مثلما يَطرد قرويّ بالحجارة الكبيرة، كلابًا كثيرة من دون فصيلة، جاءت لتتزاوج مع كلبته.
حين عادوا إلى القسم خائبين، أعطتهم الأستاذة عقوبة، بأن يقفوا على قدم واحدة طيلة الحصّة، ووجوههم إلى الحائط، في وضعيّة لقالق مُتعَبة من الهجرة، بينما وزّعت علينا صور المنتحرات والمنتحرين، ثمّ واصلت الشّرح.
شعرها أشقر، مُلولب بإتقان، كنوابض درّاجات الأطفال. حين تتكلّم تظهر على خدّها غمّازة الجمال. أحببتها كثيرًا وارتحت لأسلوبها. آمنت بجمالها اليانع ككمثرى، وبنظريتها العسلية حول الانتحار، وأخذت أنتظر بشغف أن أصل إلى سنّ الثلاثين.
أسئلتها كلّها واضحة وبسيطة، لا تحتاج إلى حفظ واستظهار. سألتنا: أيّهما أفضل؟؟ الانتحار بالسُّمّْ أم بالغاز؟؟ علِّلْ جوابك.
أخذتُ ورقة مزدوجة، ورديّة، من فتاة خجولة، وأجبت بتفوّق، إذ كنّا جرّبنا سابقًا في مختبر الفصل، فوق مكتبها الزلّيجيّ الأبيض الطّويل، الّذي يشبه مطبخ إصلاحية اليافعين، جرّبنا، مرارًا وتكرارًا، تعريض ضفدعة للانتحار، بإغراقها في دورق مليء بالْيُودْ، بعد أن تضع الأستاذة بضع قطرات من دوائها في الدّورق، أو بحبسها في قنِّينةِ اختبارٍ زجاجيّة كبيرة وشفّافة، مُفرغة من الهواء، مليئة فقط بغاز الْبُوتَانْ.
كلّنا استنتجنا بسهولة أنّ الانتحار بالغاز أفضل: تحاول الضّفدعة تسلّق القنّينة بغباء، كقطّ يخمش صورته في مرآة، بينما تبدو لنا ملامح الأستاذة أليفة ومحبّبة من خلف زجاج القنّينة، يظهر فمها لنا بشكل آخر، وعيناها تصيران واسعتين بحنانٍ مفرط إلى أبعد الحدود، وهي تشرح لنا غباء الضّفادع، فيما نحن نضحك حتّى يسيل ريقنا، فنلحسه، بينما يقف المجتهدون بِذُلٍّ ومهانة قبالة الحائط على رجل واحدة، كمالك الحزين، كمعطوبين عادوا للتّوّ من الحرب، وممنوع عليهم منعًا كلّيًّا أن يستديروا بغتة، كي يستمتعوا برؤية الضّفدعة تنتحر.