انتصار الحمادي.. سجنوها ليرعبوا شعباً بأكمله
ضجّ الشارع اليمني بقصة اختطاف فتيات وسجنهن وتعذيبهن ومحاولة الكشف على عذريتهن. حدث كلّ هذا اعتباطاً، قبل أن يصدر حكم يدينهن، بل قبل أن يحاكمن أصلاً. فهل يصدّق عاقل أنّ هذا بالفعل حدث، وأنّ القضاء اليمني الذي يستمد قوانينه من الشريعة الإسلامية هو من اقترف هذه الحماقة؟ فما الذي حدث بالضبط؟
منذ عام وثمانية أشهر تمّ القبض، فجأة وبدون أيّ تهمة، على الفتيات انتصار الحمادي ورفيقاتها (يسرى الناشري، محلية البعداني، رقية السوادي)، في نقطة تفتيش على الطريق العام بالعاصمة صنعاء، الخاضعة لسيطرة الحوثيين. وبحسب انتصار، فقد عصّبوا أعينهن وأجبروهن على التوقيع على أوراق لا يعرفن ما بها، ثم تمّ جرهن إلى السجن مع إرغامهن على القيام بالأعمال الشاقة، وتنظيف أفنية السجن والعنابر والحمامات، والويل لمن تتعب قبل أن تنجز تلك المهام، فضلاً عن تعذيبهن باستمرار على يد السجانة: كريمة المروني.. كلّ هذا بلا جريمة اقترفنها، غير امتهان "عرض الأزياء"، وهي مهنة لا يمنعها القانون اليمني، ولا يجرّم ممتهناتها أو يعاقب عليها. إذن، من أين اختلق القضاء، الذي يفقد هيبته يوماً بعد آخر، تهمته لمعاقبة الفتيات؟
تمّ تلفيق تهم "مخدرات ودعارة"، دون أيّ دليل مادي واضح، ولعدم وجود الدليل طالبوا بإجراء فحص عذرية للفتيات! وتمّ إقصاء محامي انتصار قسراً، واستمر السجن والتعذيب والتحطيم النفسي للفتيات، حتى إنّ انتصار الحمادي حاولت الانتحار، وحين تم إنقاذها، نُقلت إلى السجن الانفرادي، ثمّ وبعد أن تم الوعد بالإفراج عنهن، صدر أخيراً حكم السجن في حقهن لمدّة خمس سنوات.
إنّ سجن انتصار الحمادي ورفيقاتها بعد إضافة تهمتي "نشر الفساد، وإشعال الرأي العام"، ليس عقاباً لهنّ فقط؛ بل عقاب وترهيب لشعب بأكمله، حتى لا يتعاطى الناس مع المظلومين، خوفاً من أن تتم معاقبتهم على كلّ كلمة تعاطف مع مظلوم، في محاولة لإرهاب الضمير المجتمعي، ليخرس تجاه كلّ جريمة إنسانية، وكي ينصاع الكلّ لمزاج الجلاد. فانتصار ورفيقاتها لم يكنّ قنوات إعلامية متمرّسة، أشعلت أبواقها لتضليل الناس من داخل السجن! وما خشية السلطة من الرأي العام، إلا لأنّ هذا فضح خطأها، وكم هناك من القضايا التي تناولها الرأي العام لم تقلق مضجع السلطة.
محاولة لإرهاب الضمير المجتمعي، ليخرس تجاه كلّ جريمة إنسانية، وكي ينصاع الكلّ لمزاج الجلاد
وإذا كانت انتصار الحمادي ورفيقاتها خطيرات لهذه الدرجة على المجتمع (بنظر هذا القضاء) وينشرن الفساد فيه؛ كان من الأحوط ربما، نفيهن خارج البلد، ففي هذا حياة أخرى لهن. لكن الغرض من سجنهن وتجريمهن هو التخويف والترهيب للرأي العام، وتكميم الأفواه تجاه المآسي الإنسانية والظلم، حيث تمّ التنكيل بهن ومعاقبتهن على إيصال ألمهن للرأي العام، كما لم يسبق فعله مع تاجر ممنوعات، ولا ناهب لأموال الدولة.
الأجدر بالعقاب هو القاضي نفسه الذي أصدر هذا الحكم "الفاضح" على انتصار؛ فجرمه يفوق جرمها، إن كان لها جرم أصلاً. فالعبث بحياة الناس وانتهاكهم جسدياً ومعنوياً (عبر الحبس أو التعذيب أو التحكم في عملهم وملبسهم وآرائهم..) هو الجريمة الحقيقية. وما تم ارتكابه في حق انتصار ورفيقاتها، وكلّ اليمنيات والشعب اليمني، بل والإنسانية جمعاء، لم يسبق لأي طاغية متغطرس من قبل أن ابتدعها في يمن الإيمان والحشمة.
هذا القمع بحق الأنثى، فقط الأنثى التي تجرؤ على الحلم في الزمان والمكان الخطأ، وقد تكون ابنة لرجل ضرير وأم مسنة (وهي العائل الوحيد لهما)، ولا يملكان حيال سجنها غير المكوث في زاوية قصية من الحياة والدعاء لها بالفرج. كما الدفع بفتيات أخريات لسجن أحلامهن وأناتهن في أعماقهن خوفاً من سلطة قد تسطو فجأة على حياتهن متحصنة بالقضاء؛ هو الظلم الذي يزعزع الأمن العام. فأن تستقوي دولة بكامل سلطاتها على امرأة مكسورة لا "ظهر لها ولا ركبة"، هي الجريمة التي تستحق العقاب، وخاصة حين يفقد القضاء نزاهته وتسقط هيبته، ويتخلى عن دوره في إنصاف المظلوم ومعاقبة الظالم.