بكم تعبر الدبابة من رفح؟
طيلة مائتي يومٍ من الحرب، والإنسان الغزّيّ ممنوعٌ من خيارِ المغادرة، أو العلاج، أو العبور خلف الجدار، طيلة نحو ثمانية أشهر، لا عصفور يخرج من غزّة، ولا ورقة تطير، إلا بتنسيقٍ مصريٍّ خالصٍ، مُتذرّعٍ بإذنٍ إسرائيلي، تزداد رسومه يومًا بعد يوم، ويصطفّ زبائنه وموكَّلوه على مكتبِ الشركة في القاهرة، بينما يصطفّ العالقون على الجانبِ الآخر في غزّة، ينتظرون الدور، ويترقبون الفرج المدفوع بالكثيرِ من الأموال، وشقا العمر، وآخر مصاريف الأمل، رغبةً في النجاة، أو سعيًا لشراءِ أيّام أخرى من ملك البوابة، حارس نيران الدنيا، الذي يبتلع في جوفِه الصدئ خمسة آلاف دولار على الأقل، على كلّ "رأس" تعبر!
ثمانية أشهر وبُحَّت الأصوات حتى يئستْ، حديثًا عن الخيانة والعمالة والضعف والهوان، عن العار والذلّ في أن يقبض الأخ من أخيه ما جنى أو ما استدان به لبقيةِ عمره، ليعالَج، لينجو، ليحصل على شربةِ ماءٍ أو لقمةِ طعامٍ أو بضعةِ أنفاسٍ أخيرة لا تلوّثها الغارات بذرّات البارود، ولا صدى يأتي من الجانب الآخر، إلا بعض أحاديث وتصريحات من دوائر دنيا في هيكلِ الدولة، تتغنَّى بالسيادة، والإرادة، والنباهة، وأعلى درجات التنسيق والدعم والمساندة، بينما الواقع أوضح من الشمس، والحاضر أفظع من أيّ وصف، ها هم نساء وأطفال ورجال فلسطينيون، يحملون هويّاتهم، يعبرون من غزّة إلى مصر، بعدما يدفعون عشرات الملايين من الدولارات على مدارِ تلكم الأيام الطوال، بعد أشهر من الأهوال.
خيانة كاملة لغزّة ولمصر، للجيرة والمروءة، للجغرافيا والتاريخ، في محاصرةِ الإنسان الغزّي لتأديبه على الانتصار
بينما.. بينما.. لا تُسعفني الكلمات لينضبطَ النصّ، أو لتنعكسَ الصورة، أو ليخرج الكلام معبّرًا عن مقتضى الحال، بينما.. بينما.. أنظر إلى الصورِ، تُداهمني الفيديوهات، أشعرُ بوخزةٍ في قلبي، تجلّط في الشرايين، حرقة في الصدر، ضيق في الرئتين، وغصّة عظيمة مريرة في الحلق، والعلم الإسرائيليّ يخفق في رفح، ليست المدينة، وإنّما المعبر، الخط الحدوديّ، الذي هو بالكامل عبارة عن سيادة مصرية فلسطينية، وخط أحمر عريض للغاية، عرضه يُقدّر بكيلومترات كثيرة، لا تجرؤ "إسرائيل" على قطعه، لكنها صبيحة اليوم، في نكسة السابع من مايو/ أيار، تدهسه دهسًا، تفحّط بالدبابات فوقه، تبعجه، وتكسّره، وتقطمه، وترقص فوقه باختيال، وتتلو صلواتها التلمودية، وتكاد من نشوةِ الخيانة على الجهة الأخرى أن تمسح بعلمِ مصر أحذيتها، وقد حصلت على ما أرادت من تنسيق أفضى إلى العبور من رفح!
أتساءل، وأنا أتمثّل تلك اللحظة التي رُفع فيها علم إسرائيل في وسط الجيزة، بقلبِ مصر المفحوم المثقَل المكتئب، بعد معاهدة كامب ديفيد التي جرّدتنا من انتصارنا الذي دفعنا فيه الدماء والعرق، حين صرخت السيّدات من الشرفات، واستشهد البعض حزنًا من تلك اللحظة البائسة في تاريخنا، واليومَ أراها مجدّدًا، مجرّد استعراض إسرائيلي سرعان ما سينتهي ولا يعني شيئًا فعليًّا أمام انتصار السابع من أكتوبر/تشرين الأول الذي كتبته المقاومة الماجدة، ولا يمثّل إلا رقصة أخيرةً لعجلٍ مذبوح على وشكِ السقوط الأخير، أمّا لنا نحن، فهي تلك الخيانة الكاملة، بكلِّ أركانها، لغزّة ولمصر، للجيرة والمروءة، للجغرافيا والتاريخ، في محاصرةِ الإنسان الغزّي لتأديبه على الانتصار وسحب صورته منه، ومجاملة الدبابة الإسرائيلية لمنحها صورة انتصار زائفة ولو على حساب أثمن الأثمان، بينما أتساءل ولم يجبني أحد بعد: بكم تعبر الدبابة من رفح؟