بماذا يخبرنا "هدهد" حزب الله؟
لعلّ من أهمِّ أدواتِ الحرب لدى الجيوش هي ما تُسوّقه عن نفسها من البداية، وذلك التهويل الاستباقيّ ضمن معزوفةِ بروباغندا مُحكمة، تجعل المقهور يُفتَتن بهذا الوهم، بل ويشارك من دون قصد في عمليةِ التضخيم والنفخ تلك، حتى ينجح سلاح الردع في أولى معاركه، وهي أن يُقنع عدوّه بأنّه غير قادر على مجابهته، كأنْ تحاول محاربة "الجيش الذي لا يُقهر"، فبالتأكيد أنت مجنون أن "تجرّ شكَل" أو "تجاكر" إسرائيل، وكذلك أن تحاول مساءلة "الجيش الأكثر أخلاقية في العالم"، فأنت بهذا تتجاوز حدودك، وأحد المسلّمات الواقعيّة في هذا الزمان؛ وهذا تحديدًا ما أنفق الاحتلال عمره (الضئيل طوليًّا، المتسع عرضيًّا) كلّه، بما حوى من جرائم وأموال، ليرسّخ هذه "الأسطورة" عن قوّته.
جاءَ الطوفان فكسحَ ذلك، كسحَ الأسوار الحديدية، والتقنيات التي لا نعرف عنها إلا أسماءها، وبرامج التجسّس والتخابر التي تشبه في تطوّرها صعودَ الإنسان أوّل مرّةٍ للفضاء، وتسليح الجنود والضباط بما لا يخطر على بالِ إبليس، والدعم الأميركي الذي لم يكن يعلم إنسيٌّ ولا جانٌّ في هذه الأرض أنّه إلى تلك الدرجة، وبهذه الكثافة، وبذلك الإخلاص، ليس إخلاص الموجود إلى المنبثق عنه، ليس إخلاص جذعٍ إلى غصن، وإنّما إخلاص الموجود في سببِ الوجود، كأنّ الولايات المتحدة هي الممتنة ببقائها إلى ذلك الكيان الوظيفي إسرائيل، وأكثر من ذلك من منظومةٍ أمنيةٍ وحربيةٍ وعسكريةٍ خارقة، وهي بالفعل كانت كذلك، حتى فضحها اليوم المقدّس والفعل الشريف.
ومنذ ذلك اليوم وجميع قادة الاحتلال يتقاذفون كرة النار من حجرٍ إلى حجر، ومن قسمٍ إلى جناح، ومن عسكريٍّ إلى سياسي، ومن أمنيٍّ إلى مخابراتي، ذلك "الفشل" كما يحبّون تسميته، وتلك "الهزيمة الفاضحة" كما يحبّ الواقع وصفها، كشفت عن "إسرائيل" أعزّ ما كانت تملك، وهو الوهم، ذلك الرداء المنسوج من المادة الخام للكذب، والفقاعة الكبرى المنفوخة في حمايةِ منصّات القبّة الحديدية، وهذا المكان الذي حرصوا على أن يكون تحت رعايتهم "المكان الأكثر أمانًا في العالم"، فكانت الضربة قاصمةً لذلكم كلّه، ومُفجِّرة للفقاعة الكبيرة.
ما سقط منذ "طوفان الأقصى" لن يعود أبدًا، لا بورقة توت، ولا بشجرة توت، ولا بغابات كاملة كثيفة الأشجار
تخيّل أنّ فتوةً يحكمُ حارةً، يفرضُ إتاوات على أهلها، ويعيش في أيّ بيت شاء، ويسكن كلّ شهر في غرفةٍ أو شرفةٍ تعجبه، يسحل السكان، ويقتل أطفالهم، ويسجن نساءهم، وكلّما نهض شابٌّ ليقاتله دفنه حيًّا، حتى إنّ قوات الأحياء المجاورة حاولت ذات يوم بعيد أن تؤدّبه، فأدّبها في ستةِ أيّام، ثم بات اليوم السابع في بيوتهم هم، واقتطعَ أراضيهم، واستولى على منازلهم، إلى أن ترسّخت "الأسطورة" لدى الجميع، بل وبدأ بعض أبناء خصومه السابقين في التقرّب منه، ومحاولة تلميع حذائه تارة، ولعق عصاه تارةً، واستقرّ الوهم في نفوسِ الجميع... لكنَّ فتيةً ذات صباح باغتوه وأذهلوا الجميع، ليتوقّف الزمان في الكون كلّه أمام هذا المشهد في الحارة، الفتوة المنتفخ ممرّغٌ في الأرض، مسحولٌ في التراب، غارقٌ في دمه، يسيلُ الزبد من فمه، ويقفُ فوق رأسه صبي في العاشرة، بحذائه الصغير، وشعراته النافرة كلّ منها في اتجاه، وساعديه البسيطين المعقودين خلف ظهره، وهو يشيحُ بوجهه عن العالم الذي استسلم كلّ هذه العقود لتلك الأكذوبة، ويدهس بحذائه رقبة الكذّاب الكبير.
ذلك المشهد هو ما ستجدهم في الصحافة العبرية يحاولون محوه كلّ يوم، بأيّة وسيلةِ تلميعٍ، وأيّ مستحضر تجميل، وأيّ مسحوق يقع في أيديهم، تارةً بتقليلِ قوّة الصبيّ المتمرّد، وتارةً بأنّ ذلك كلّه كان نتيجة خطأ فردي من قيادةٍ معيّنةٍ بدلًا من حقيقةِ تهاوي منظومة أمنية كاملة ضمن الأعلى في العالم أمام بضعةِ شبان مخلصين وقادة أذكياء، وتارةً بأنّهم كانوا على علمٍ بالهجوم من البداية لكنهم قلّلوا منه، وتارةً بأنّ مخابرات الفتوة المتضخم كانتْ تعلمُ يقينًا قبل الحدث بأسبوعين لكنها لم تعتقد أنّه سيكون بهذه القوّة، وتارةً بأنّ بعض قادة الجيش تراخوا في التعامل، أو كان البعض نائمين أثناء نداءاتِ الاستغاثة.
بعض الجمهور العربيّ يفرح بمثل هذه الأخبار ويتلقف الطعم تحت عنوان "الاحتلال يعترف بفشله"، والحقيقة أنّ في ذلك ترويجًا للوهم المقصود، لأنّ ذلك لم يكن فشلًا وإنّما هزيمة، وذلك ليس اعترافًا وإنّما محاولة لجرّ الوعي الجمعيّ إلى أنّ ذلك "خطأ" في منظومة إسرائيل الأمنية، وليس اختراقاً كاملاً لها، وإهانتها، وتمريغاً لأنفها في التراب، وتلك هي الحقيقة الوحيدة التي لن تجدها في بروباغندا العدوّ المُهزّأ.
يصدّق على ذلك "هدهد" حزب الله الذي أطلقه من جنوب لبنان إلى شمال أراضينا المحتلة، فصال وجال وطار فوق حيفا، وأهداف العدوّ المحتل في حيفا، وأعتى أجهزة منظومته العسكرية، بما يخفيه من منصّات ومواقع شديدة الحساسية، يراها المجتمع الإسرائيلي نفسه لأوّل مرّة، وتنكشف أمام ملايين المشاهدين في بثٍّ حاولَ الجناح الإعلامي اختصاره في مهمةِ مونتاجٍ شديدة التعقيد، إلى عشر دقائق فقط، رغم أنّ عورة الاحتلال من المؤكّد انكشافها أطول من ذلك بكثير، ولا يعلم أحد ما خفي، لكن المؤكد أنّ ما خفي أعظم بكثير جدًّا، وأنّ ما انكشف من سوءاتٍ أضعاف ما عُرض، وإنّما كانت رسالة جديدة، أنّ الرتق متسع على الراتق، وأنّ ما سقط منذ اليوم المشهود لن يعود أبدًا، لا بورقةِ توتٍ، ولا بشجرةِ توتٍ، ولا بغاباتٍ كاملةٍ كثيفةِ الأشجار، لأنّ ما ظهر.. رأيناه جميعًا، بأمِّ عيوننا.