بوتين في مأزق
"مغمض العينين، غائصاً في الوحل، متوجهاً نحو المجهول"
ذلك هو التوصيف الأقرب لحال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اليوم، فبعد مرور سنة تقريباً على "العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا"، ها هو مسلسل الخسائر الروسية مستمر.
كنّا نظن أنّ نهاية الحرب لن تتطلب من جيش "حرف الزاي" سوى أيام معدودة، تصل فيها القوات الروسية إلى كييف لتعلن عن "تحرير الشعب الأوكراني من زيلينسكي وقوى الشر العالمية" وعودة أوكرانيا إلى حضن الأم روسيا.
بدلاً من ذلك، بدأت سنة 2023 بواحدة من أقسى الضربات الموجعة التي نفذها الأوكرانيون ضد القوات الروسية في بلدة ماكفيكا، والتي اعترفت فيها روسيا بمقتل 89 جندياً رغم أنّ التشكيك لا يزال قائماً حول صحة الأرقام الرسمية. وبغضّ النظر عن الرواية الرسمية التي راحت تروّج لما يسمّى "الخطأ القاتل"، عندما استعمل المقاتلون هواتف ذكية مكنت الأوكرانيين من كشف معاقلهم. إلا أنّ الضربة في حدّ ذاتها شكلت صدمة للشارع الروسي الذي يتأكد يوماً بعد يوم أنّ فاتورة هذه الحرب لا تزال مفتوحة، وأنّ الخسائر البشرية مرّشحة للارتفاع يوماً بعد يوم، ما يعطي صورة بأنّ الوضع في أوكرانيا ليس تحت السيطرة، وأنّ موازين القوى ليست في صالح الروس بتلك الدرجة التي يحاول الإعلام الروسي أن يزرعها في عقول الروس والمتعاطفين معه في العالم الخارجي.
ومن جهة ثانية، تكشف صواريخ هيمارس والإمدادات العسكرية من الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها أنّ أوكرانيا مستمرة في معركة النفس الطويل، خاصة مع ابتعاد الحلول السياسية وتجاهل طلبات الروس المتكرّرة بالجلوس على طاولة الحوار، بما يؤكّد مرّة أخرى أنّ القوى الغربية ماضية في دعمها لأوكرانيا بهدف إسقاط بوتين وروسيا معه.
بدأت سنة 2023 بواحدة من أقسى الضربات الموجعة التي نفذها الأوكرانيون ضد القوات الروسية في بلدة ماكفيكا، والتي اعترفت فيها روسيا بمقتل 89 جندياً
كانت التحرّكات العسكرية الروسية التي تلت النجاح في ضم لوغانسك ودونيتسك وخيرسون وزابوريجيا دليلاً واضحاً على أنّ خطة بوتين وصلت إلى هدفها المحدّد، وأنّ الوقت قد حان لتحرّكات دبلوماسية تدفع الغرب إلى التفاوض مع الروس. وكان التراجع الروسي من خيرسون بمثابة النوايا الحسنة على أنّ بوتين لا يبحث عن المزيد، ولا يريد الذهاب بعيداً في الحرب، وجاء تصريح نائب وزير الخارجية الروسي أندريه رودنكو، في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، ليعلن أنّ روسيا ليس لديها شروط مسبقة لإجراء مفاوضات مع أوكرانيا، لكن يتوجب على كييف "إبداء حسن النية". تلك الدعوة إلى المفاوضات كانت في نفس الوقت دعوة إلى تنازلات غربية أوكرانية تغضّ البصر عن كلّ ما حصل لتكسب روسيا نوعاً من الشرعية على الأراضي التي حصلت عليها وتضمن لها عودة الأمور إلى ما قبل بداية الحرب. ولكن التوّجه الروسي إلى الخيار الدبلوماسي قوبل بالرفض، مما اضطر روسيا إلى تعديل موقفها بعد شهر من تصريح رسمي يدعو إلى التفاوض بدون شروط ليأتي دور وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، ويخيّر الأوكرانيين بين الاستسلام أو مواجهة حرب مستمرة. هذا التناقض، ربما يكون مراوغة، ولكنه يكشف مدى ارتباط دبلوماسية روسيا بالتطورات الميدانية، وبردود الفعل التي تأتي تعقيباً على محاولاتها اليائسة لحسم الحرب.
من جهة ثانية، تتكاثف العواقب الاقتصادية على روسيا، حيث أصابت العقوبات الشعب الروسي بشدّة، مع ارتفاع مستويات التضخم. وخلال الأسابيع الثلاثة الأولى من الحرب، بين 24 فبراير/ شباط ومنتصف مارس/ آذار، ارتفعت الأسعار بنسبة 10%. وبما أنّ الأجور لم تتغيّر خلال هذه الفترة، فقد انخفضت القوة الشرائية للسكان بنسبة 10%، ما يعني أنّ الروس يتحسّسون طعم الحرب في حياتهم اليومية، حتى وإن كانوا بعيدين نوعاً ما عمّا يجري داخل أوكرانيا. كما أنّ شريحة كبيرة من الشباب الروس، والذين كانوا يملكون وظائف محترمة في شركات أوروبية انسحبت من السوق الروسية، وجدوا أنفسهم مضطرين إلى التوّجه، إمّا إلى صناديق دعم البطالة أو إلى شركات وطنية تكون فيها الأجور منخفضة نظراً لتشبّع سوق العمل بالمزيد من طلبات العاطلين عن العمل.
مع غياب الحل، سيضطر بوتين وجيشه إلى استكمال عمليته العسكرية التي لم يعد نجاحها يعني شيئاً (إن نجحت!)، وذلك بعد أن قرّرت الجارتان، فنلندا والسويد، الانضمام إلى الناتو
كذلك، تضرّر قطاع النقل الجوي بصورة شديدة بعد موجة العقوبات التي تلت العملية العسكرية، وتضرّرت عائدات السياحة بعد التراجع الكبير في حركة المطارات من وإلى روسيا، مدفوعة بغياب السائح الأوروبي الذي تعدّ قدرته الشرائية عالية، ما يعني أنّ روسيا فقدت جزءاً مهماً من عائدات العملة الصعبة التي كان قطاع السياحة يدرها.
تشير تقديرات المؤسس المشارك لمؤسسة بوريس نيمتسوف للحرية والنائب السابق لمحافظ البنك المركزي للاتحاد الروسي، سيرجي أليكساشينكو، أنّ العملية العسكرية الروسية تكلف حوالي 200 مليار روبل، أي 3.2 مليارات يورو شهرياً، توّجه لدفع رواتب الجنود وإطعامهم ونقلهم، وكلّ ما يتعلق بالأداء الطبيعي للجيش. ومع الخطة العسكرية الجديدة التي تهدف إلى حشد المزيد من القوات في أوكرانيا، فإنّ التكلفة مرّشحة لأن تصبح 300 مليار روبل، أي 4.7 مليارات يورو شهرياً.
في انتظار الحل، والذي لا يبدو قريباً، سيضطر بوتين وجيشه إلى استكمال عمليته العسكرية التي لم يعد نجاحها يعني شيئاً (إن نجحت)، وذلك بعد أن قرّرت الجارتان، فنلندا والسويد، الانضمام إلى الناتو، لتفشل روسيا في إبعاد الناتو عن حدودها، وهي المحاصرة اليوم في ظلّ عقوبات اقتصادية تستهدف اقتصادها وفق خطة بعيدة المدى يكون فيها العامل الداخلي المحرّك الأول لانتفاضات قد تندلع ضد سياسات الكرملين لتنهي حكم بوتين إلى الأبد.