بين المتطرفين للغاية والمتطرفين بلا نهاية
قد يُخيّل إليك من البداية أنّ ثمّة إسرائيليين يتظاهرون في كيانهم المحتل، ضدّ إسرائيليين آخرين، يرتكبون أفظع الجرائم، ما يشوّه سمعة الاحتلال أكثر، ويضيّق الخناق على المستوطنين حين يسافرون ولا يطيقهم الخلق في أيّ دولةٍ حول العالم، بينما يعتنق بعضهم أفكارًا يسارية مثلًا، وذلك من باب التناقض الغربيّ، وعلى غرار الكثير من حماقات الرجل الأبيض الذي يدّعي الإنسانية ويتحدّث عن حقوق الإنسان وهو يعيش فوق أرضٍ مسروقةٍ من أهلها الذين قتلهم الآباء قبل عشرات السنين.
لكن حقيقة الأمر عكس ذلك، وأبشع بكثير، فلا تكاد تُذهل من الأفعال كلّها، حتى تندهش من ذلك الفعل ذاته، حتى تكاد تجنّ من ردِّة الفعل على ردِّة الفعل على الفعل، كلّها جرائم جنونية مركّبة، وضروب متراكمة من الدناءة والوحشية، فخبر اغتصاب معتقلين فلسطينيين في معتقل سديه تيمان الذي لا يقارن به غوانتانامو ولا أبو غريب، على مرأى ومسمع الجنود وبقية المعتقلين، وبتوثيقِ الكاميرات، لا يثير أيّ جلبةٍ، ولا ردّة فعلٍ باللوم أو الحزن أو التعاطف، حتى من هؤلاء المحتلين، بالعودة إلى أصلهم التكويني كبشرٍ لا أكثر، مجرّد بشر، ولو كانوا أعداءً، وإنّما الذي يثير الجلبة والفوضى والجدل هو قبض جيش الاحتلال على تسعة من جنوده المجرمين، خشية أيّ ردات فعلٍ دولية حقوقية، في مسرحيةٍ مبتذلة، فلا يقبل المستوطنون حتى أن تمثَّل مسرحية تخفّف قبحهم، وإنّما يعترضون، لماذا؟ لأنّ ثمّة جنودًا أحيلوا للتحقيق في تهمةٍ لا تستحق ذلك، وهي "اغتصاب فلسطيني"!
لا أتخيّل مجتمعًا بهذه الدرجة من البشاعة، كيف يقوم؟ وكيف يستمر؟ وكيف يعيش؟ وكيف يتعايش؟ كيف جمعوه من البداية؟ وكيف حافظوا على تلك الدرجة من الوحشيّة لكلّ هذه المدّة؟ كيف تغذّوا الحقدَ لدرجة استمراء فعل "الاغتصاب"؟ أيُّ دين، وأيُّ عقيدة، وأيُّ احتلال، وأيُّ استعمار، وأيُّ عقل، وأيُّ إنسان أو حيوان حتى، يستطيعُ أن يبتلع ذلك الفعل؟ بل يستسيغه، بل ويتلذّذ به؟ كيف يرون أجسامنا منتهكةً إلى هذا الحد، بعدما انتهكوا أرضنا وبيوتنا وأرواحنا؟ تلك ليست مفاجأة، وإنّما صدمة الواقع، ربّما يكون من الخيال أن تقول إنّهم يغتصبون أسرانا، وقد يحدث ذلك فتتمنى الموت قبل سماع الخبر، لكن أن تنقلب "إسرائيل" رأسًا على عقب لأنّها لا تقبل التحقيق مع مغتصبين، ولو في مسلسل هندي؟ فتلك مرارة أكبر من أن تتحمّلها حلوق سبعة مليارات إنسان!
جرائم جنونية وأفعال وحشية ودنيئة يرتكبها الجيش الإسرائيلي
ثم أين شوارعنا نحن من هذا في المقابل؟ أين الهبّات التي تثور لأجل أخبار الاغتصاب تلك؟ أين حتى استنكارات الحكومات المبتذلة؟ أين بيانات الشجب والإدانة والغضب والمتابعة بقلق بالغ؟ أين التظاهرات الرمزية عند السفارات السافرات والقنصليات؟ أين ملايين العرب الذين لم يكونوا ليناموا بعد خبر تعذيبٍ في السابق، حتى تحوّل التعذيب إلى هتكِ عرضٍ واغتصابٍ، وقتل ستة وثلاثين أسيرًا من غزّة في سديه تيمان منذ السابع من أكتوبر؟ لا صوت يعلو فوق صوت المستوطنين، الذين يعيشون مارقين في كيانٍ مارقٍ، فوق أراضينا المحتلة، ثم بعد أن يغتصبونا حرفيًّا، يتمتّعون برحلات النقاهة في عواصم عربيّة تستقبلهم بالأحضان الدافئة والورود الحمراء في مدن التطبيع والسلام!
ما أعرفه أنّ غدًا قريب، وأنّ الأمّة ليست أمّة مغتصبة بالكامل، وإنّما سيخرجُ منها من يردون شرفها ويصحّحون عرضها ويذودون عنها، وحينها لن يحاكموا المغتصبين وحدهم، وإنّما سيعبرون من فوق أجساد الذين صافحوهم أولًا.