ثبات الأسطورة: انفجاراُ لا انتحاراُ
عندما كنتُ أواجه سجّانًا (ذلك الذي يحمل مفتاح الزنزانة أو مفتاح البلد) في مساومةٍ أو ما يُشبهها، كثيرًا ما كنتُ أتعمّد الجلوس واضعًا قدمًا على الأخرى، متحدّثًا بأوقح ما تكون الثقة (المتحايلة، المُدّعاة) قائلاً له: أعدكَ أنك ستُحاكم، وأنّ عدالةً قادمة ستطاولك على ما ارتكبت.
لم يكن في بالي أنّ هذا سيحدث، أو أنّني سأخرج من المعتقل حيًّا أصلاً، لكنّها ضرورة الدّفع، مقابل ما يحاول زعزعته في نفسي، وفعلُ ما يليق في موضعٍ كهذا، ومثلي فعل الكثير من الرفاق والرفيقات في مساومةٍ ما، في وطنٍ محتلٍّ ما .
لكنّ أبا إبراهيم، عندما قالها لمحقّقه (وقت قالها)، كان يقصدها حرفًا، ويعنيها ويستعدُّ لها، وربّما ترتسم خطّتها كاملةً في ذهنه، بعد نقاشٍ واجتهادٍ، وعدهم بالرعب فأرعبهم، ووعد رفاقه بأن يُحرّرهم فحرّر، هو والصحب، منهم ما تحرّر، وصعد على طريق تحرير الكلّ، ووعد بأن يكسر السلك بين البلاد والبلاد، فكسرها وحلّق فوقها وأعاد تحريرها، ولو لبضع ساعات، ولعلّها الساعات التي ستحرّرها تمامًا، في وقتٍ ليس بعيد.
ما الذي تحتاجه الأسطورة لتكتمل أكثر من هذا؟ وإذا كانت "أسطرةُ" المقاومين خطيئة قد تنزعُ عنهم الحاجة للدعم والإسناد، وتخلّص صاحبها من أداء الدّور، وتُجرّدهم (المقاومين) من مظاهر إنسانيّتهم، فهنا، في هذه الحالة تحديدًا، لا يمكنُ النظر بعينٍ بشرية إحكامًا منطق البشر، هذه رواية السنوار الأخلد، التي قرّر كتابتها، لا بالحروف ولا على الورق، إنّما بدمه وروحه، وعصاه، التي ألقاها في وجه الكلّ، عدوّه والمتفرّجين والملفّقين، صفعةً أخيرة، بصقةً أخيرة في وجه العالم بمن فيه.
لعلّ أبلغَ ما في الرجلِ أنّه يشبه غالبنا، لا في ملامحهم بالطبع، إنّما في أدائه الذي جاء من خارجِ الدوائر أو المراتب التقليديّة للدولة/التنظيم كلّها (عسكريًّا وسياسيًّا ودعويًّا.. )، وفي صريح انفعالاته وضيقه بما تكلّس من الحال تطبيعًا ولو رافضًا على غير السائد من التطبيع، كما في قاموسه الذي يُشبه قاموس غالب الأهل، إلا أنّه يقصده، ويعي قيمة كلّ حرفٍ فيه وأثرها.
خطّ السنوار روايته، حتى مشهدها الأخير، ووضع ختامها الذي هو مفتتحٌ لقادم جليل
يبدو ملولاً غير متعجِّلٍ، بعد ما انقضى من عمره، لم يذهب هباء صحيح، إذ استغلّ كلّ ثانيةٍ فيه كما يجب ويليقُ تمامًا، وربّما قرّر أنّ خلاصة الدّور دفع اللحظة إلى ذروتها كسرًا للتجمّد القسريّ المُتواطئ عليه في القضيّة، وإعادةً لإنتاج كفاحها بالصورة التي يستحقّها هذا الكفاح.
ورغم كلّ ما في الرجل من إنسانية، تشبه الخلق دون أن يشبهوه، إلا أنه أعاد للكلّ (وأنا أوّلهم) تعريف الأسطورة التي من لحمٍ ودم، لا حكاية الخيال التي نسجها الراغبون في التشبّث ببطولة مستحيلة، فلم يفعلها كما أراد لها هو أن تحدث (لم يكن يعرف أنّ هذا كلّه سيُذاع أو يُصوّر، هو فقط أكمل مواجهته كما يليق بجنديٍّ امتلك زمام القيادة، فأوصل المعركة إلى اللحظة التي أرادها، ثم أكمل مهمّته الجنديّة وسط الجنود ووسط الناس)، زاهدًا كما ثبت، إلا أنّ الخلود حقّ الزاهد قبل غيره.
ولعلّه أصدق من قيل فيه أنّ كتاب العمر بين يديك فاكتب فيه ما تشاء، فخطّ روايته، حتى مشهدها الأخير، ووضع ختامها الذي هو مفتتحٌ لقادم جليل، وهزم عدوّه " انتصارًا للدم على السيف" هذه المرّة في خلودها إلهامها، و(كما أتمنى) في انتصارها الأخير الذي أثق في حدوثه على يد هؤلاء وبما فعلوه وما زالوا.
هنيئًا لمن عرفَ مهمّته، وأدرك دوره، ووجد إجابةً عن سؤالِ وجودِه، فتحضّر بطول عمر التحضّر، نفسًا وذهنًا وروحًا وأدوات، وحضّر من حوله فاحتضنوا، سابق الزمن فسبقه، وقفزًا على المراحل، انفجارًا لا انتحارًا، وإلهامًا.