في انتظار علاء

12 أكتوبر 2024
+ الخط -

في مواجهةِ وحشي الشاشةِ، ثمّ الورقةِ البيضاء، أهلعُ كما لم أفعل من قبل؛ صباحًا زيارة علاء، ولديّ ما أقوله له بعد أن تقرّر ألّا يخرُج رغم انتهاء محكوميّته، لكنّ شيئًا هائلاً حاشني عن ذلك قسرًا، رغم أنّي أعرفُ ما أريدُ قوله، كما صياغته حاضرةٌ في ذهني كما هي، فقط من ينقلها عنّي إلى الورقةَ لتذهب معهم؟

هذه رسالة، وإن لم تشبه غيرها، لكنّها رسالة في آخر الأمر، ليست قصيدة أو قِصّة يمكن التحجّج أمامها بتلاكيك الإبداع والوحي والطقوس والمناخ والاستعداد... فما الذي يمنعني بقسر كهذا؟ كيفَ لم أستطع أصلاً بطول السنين الفائتات؟ إذا كان السجّان، فقد غابَ بعضه، فما الذي غيّبني هذه السنة منذ خرجتُ؟

لم يكن مقبولاً أن أكون هنا، في غياب علاء (هنا في البيت، وهنا خارج السور)، أعرفُ أنّ الأمر لن يستقيم قبل خروجي، رغمَ أنّنا لم نبقَ معًا إلا بعض أشهرٍ في "حلاوة البدايات السجنيّة" وقت كنّا قادرين على شيءٍ من التواصل، والقراءة، والنقاش، والكتابة، وأشياء كثيرة انتهت بإحكامِ السيطرة على كلِّ شيءٍ (عسكرةً مطلقة)، فانتفى بذلك أيّ اضطرارٍ من السلطة لتبدو لطيفة و"بتاعة حقوق إنسان"، وانتفى كلّ حقٍّ حتى لنا بصفتنا معتقلين، ولو أن نتراسل صوتًا، كتابةً، أو حتى بالشيفرات والإشارات.

كنتُ أستعير صوتَه (معتقلاً) في اللقاءاتِ المُختلسة مع معتقلين من أيّ تيّار، ويسألني أحدهم: تفتكر علاء ممكن يكون رأيه إيه؟ أبدأ بنفي الحقّ "علاء هو الوحيد اللي من حقّه يقول رأيه بنفسه"، لكنّي لا أقفُ عندها، كأنّما أنطلق من النفي لأفعل، فأستعيدُ النقاشاتِ الليليّة بين زنزانتينا، والكتب المتبادلة تهريبًا أو تواطؤًا، وأقول: ربّما قال في هذا الموضع كذا، وربّما يكون موقفه كذا... .

أشياء كثيرة انتهت بإحكامِ السيطرة على كلِّ شيءٍ، فانتفى بذلك أيّ اضطرارٍ من السلطة لتبدو لطيفة و"بتاعة حقوق إنسان"

كنتُ خجلاً في كلّ مرّةٍ فعلتُ، وبعد خروجي، وانتظاري (كما الجميع) خروج علاء، ما زلتُ أسألَ مع رأيي، أو قبله حتى، عن رأيه أو موقفه أو تصرّفه، فأعودُ لذات النفي المُتحايل، وأستعيدُ وأقتبس ثمّ أستعير وأقول ربّما وربّما وربّما، وأعودُ خجلاً متسائلاً: أُبقي صوته، أم ألفّقُ له؟ وما زلتُ لم أصل إلى إجابةٍ حتى اللحظة.

لكنّي أكادُ أناقشه هوَ هوَ في كلِّ مسألةٍ، كما كنّا نفعل، نقاشًا هادئًا، أو زاعقًا أو حتى صارخًا على "نظّارتي" زنزانتينا، وأردُّ أحيانًا على ما أظنّه سيقوله، أو أبحث عمّا أظنّه سيطرحه، أو أعيد الصياغة في التباسٍ أعلمُ أنّه سيجنّنه، صراعًا مشتركًا على القاموس واللغة والتعريف (وهو النقاش الذي خضناه أكثر من غيره قبل كلّ حوارٍ أو كتابةٍ وبعد كلّ قراءة).

وأكادُ أُدركُ قدر "الضحكِ الصاخب" وهم يخبرونه أنّني قفزتُ على خِطّة اللعب مع "لانا" حيث هيَ هناك... بعيدًا، فيقولُ "حلّ عن دماغي"، "مش في السجن وبرّه"! ويضبطني أحكي لها (بعد أن ننجو من هذا الوحل الهائل) عنه وعن جدّها، فيقولُ "متزرزرًا": "ليه أنت تحكيلها عن أبويا؟" فأقول له "احكي يا عم حد حايشك؟" وأظلّ أضحك.


يطلعُ الصبح ولم أكتب حرفًا واحدًا من الرسالة، و"طنط ليلى" استيقظت وبدأ صوتُ نشاطها يدبُّ في المكان، حسنًا، لأخبرها أن تسلّم عليه، وكفى.

متى تنتهي المأساة؟ مأساة الأسرة، مأساة الجيل، ومأساة الوطن

ما هذا؟ ما الذي جاءَ بأمّي إلى هنا، صوتها وهي تعدّ الطعامَ وتلملمه، صورتها وهي في المشفى بعد كلِّ زيارةٍ أو جلسةٍ، تاريخها المرضيّ المرتبط لزومًا بتاريخي السجنيّ، بكاؤها المكتوم حتى لا يضبطها أبي فيتشاجرا حول حزنهما وغيابي، الوقاحةُ على البواباتِ المتتابعات في كلِّ محاولةٍ لرؤيتي، عودتها حزينةً ومكسورة لطعامٍ مُنِع أو فاكهة، وقهرها العميق إذا كان الممنوع دواءً أو شيئًا تعرفُ أنّي أحبّه...

"أوووووف" ما الذي جرّ هذا كلّه إلى هنا؟ ومتى تساقط فوق لحظتي هكذا فـ"بطّطها"؟

أذهب إلى باب الحجرة وأعودُ مرّتين أو ثلاثة، لا أجرؤ على مواجهةِ اللحظة، أختبئ في السرير مُغطّيًا وجهي (سذاجة طفلٍ أو نعامة، يغمّ عينيه هو كي لا يُرى).. وأنتظرُ حتى أسمع باب البيتِ يُغلق وراءها (طنط ليلى) وأتأكّد أنّها نزلت للزيارة.

فأقومُ، وأشربُ قهوتي، وأظلّ "أفرك" حتى تعود لأطمئنّ.

أو لعلي انتظرتُ أن تعودَ به في يدها، لتنتهي المأساة: مأساة الأسرة، مأساة الجيل، ومأساة الوطن.