جريمة "صغيرة" لا يراها أحد!
في مطعمٍ راقٍ إلى درجةٍ مستفزة على ساحل البحر مباشرةً، تجلس السيدة ملقيةً بحقيبة يدها إلى جانبها، ممسكةً بهاتفها تتابع الرسائل الأخيرة وتسجّل ردودها الصوتية، وبالقرب منها طفلة لا تتجاوز الإحدى عشرة سنة تقريبًا، لها ملامح ملائكية، شعر منساب، وابتسامة وديعة، وبراءة لافتة، تعبث في الفراغ أمامها، تحاول لفت نظر الأم بوسائل شتى، كلّها تبوء بالفشل، حتى تنطفئ ابتسامتها وهي تراقب محيطها، هل رأى أحدٌ إخفاقاتها المتكرّرة؟
لستُ ذلك الشخص مفتعل الحكمة الذي يحاول استخراج الدروس من اللاشيء، ملقيًا جزافًا بأحكامه ذات اللحظة الواحدة، والانطباع الأول، والنتائج السطحية، من حيوات الآخرين من دون أن يشعروا بشيء، ليعيّن نفسه بطلًا في نظر المستمعين، ولكن، أحيانًا تتجلّى الحكمة أمامك وأنت زاهد فيها، وتنكشف لك من دون مواربة، آملةً في أن تلتقطها، وينتقل الموقف عفويًّا إلى قصة قصيرة كتلك التي نحكيها.
بعد قليل، حضر رجلٌ آخر، لا يلتفت إلى الفتاة رغم سماعها بوضوح تقول "بابا"، لم تعد طفلةً، فتاة صغيرة، هكذا يكون التوصيف أكثر دقة، جلس الرجل بعد سلامٍ خفيفٍ على السيدة، وتجاهل بالكاد للبُنيّة، يتبادلان حديثًا سريعًا، يحول بين استكماله انهماك كلّ منهما في هاتفه، يطلب "الأب" (على ما يبدو) أرجيلته، وتطلب الأم قهوتها، ويطلبان للصغيرة كوب عصير (لم أكن بهذا التركيز إلا لأنهم كانوا في الجوار بشكل مبالغ فيه، مخترقين حدّ خصوصيتنا، ولأنّ الصوتَ سمح بذلك، والمشهد يستفز العاقل).
ما زالت الفتاة بعد وصول الطلبات تحاول الدخول في أيّ فقاعةٍ من المجاورتين لها، تتقرّب من الأم فلا تلتفت لها، تصرّ على الأب أن يشرب من عصيرها فيشيح بوجهه بعيدًا، ساهمًا في خياله تارةً، ينفث دخانه الكريه من دون مراعاة صحة الفتاة، ومنشغلًا في هاتفه تارةً أخرى، وتسأل الفتاةُ الأم مجددًا عن أيّ شيء، من أجل لفت النظر فحسب، ولا تلتفت، إلا أحيانًا للزوج وللكلام بجملة واحدة حول شيء ما، إلى أن جاورته حتى يتبادلا استعمال الشاحن من مقبس الكهرباء القريب.
جلست فلم يتفقّدها أحد، وغابت فلم يفتقدها أحد، عادت لتسكن مجدّدًا بين جسمين هامدين، جثتين بعيون منتبهة إلى شاشات مصمتة
يبدو الموضوع مستفزًّا؟ مبالغًا فيه؟ أم أبدو متطفلًا؟ حتى ولو، فما يهمني الآن هو إنصاف هذه الصغيرة، خصوصًا بعدما ضجرت، وهي تواصل الالتفات حولها، لترتدي معطفها، مستأذنةً على ما يبدو (دون ممانعة أو سماح أو مبالاة من الأبوين) لتتجوّل قليلًا في المطعم الفاره، تتجوّل كطفل تائه، حقيقةً لا مجازًا، ضالّتها على بعد خمسة أمتار منها، لكنها على ذلك لا تراهما، أو بالأحرى لنقل إنهما لا يريَانها.
تتلفّت مجدّدًا، مشكلة في الثقة تتأجج في النظرات والحركة المتردّدة، ومتابعةٌ مطوّلة لطفلة عادية في يد أمها، تخرجان من المطعم وهما تتبادلان الحديث، لتظهر فجوة نقص، ولحظة تناقض، في مشهد سينمائيٍّ بامتياز، كنت أعلم بوجوده، لكن كنت أكره أن أحضره يومًا ما، وتمنيتُ لو أنه اقتصر عندي على مشاهدته في التلفاز أو السينما، حتى لا تترك فيّ حقيقته كلّ ذلك الأثر!
لم تطل البنتُ غيابها، جلست فلم يتفقّدها أحد، وغابت فلم يفتقدها أحد، عادت لتسكن مجدّدًا بين جسمين هامدين، جثتين بعيون منتبهة إلى شاشات مصمتة، لتعبث في الفراغ من جديد، دون أن تلتفت إلى أيٍّ منهما مجدّدًا، كأنها اقتنعت في وقت متأخر أنها ليست موجودة، أو ليسا موجودين، وفي داخلها صوتٌ يصرخ: "أنا هنا"، وثأر ربما يحين موعده حين يغزو الشيب رأسي الأبوين المشغولين، ليشتاقا إلى حديث الفتاة الصغيرة، فيجدا بين يديها هاتفا لا ترى ما وراءه من وجوه، يتمنيان عليها أن تنظر إليهما نظرة رحمة، فلا ينالاها، وبداخلها صوتٌ يهمس: "منذ زمن طويل.. لستُ هنا".