حرب الطّوفان وقصيدة بيروت
كثيرا ما تَنتجُ النّصوص من أحداث الواقع، والواقع ينتجُ من الزّمان والمكان، وبهذا من غير الممكن أن تُدْرَسَ النّصوص بمعزلٍ عن إطارها الزمكانيّ؛ حيث النّص في هذه الحال "واقعة تاريخيّة متأثرة بعلاقات الدُّنيا"، وتتطلب دراسته "فهم الكيفية التي صيغ ويصاغ بها النص"، وقد يحدث أن يُقتبس النّص نفسه في غير زمكان؛ بغرض التّعبير عن واقعة تاريخيّة غير الواقعة الأصليّة التي جاء بها النّص.
أسعى من خلال هذا التّقديم الفلسفيّ للمقاربة بين ما يجري الآن من أحداث في معركة طوفان الأقصى، وما جرى من أحداث في حرب لبنان عام 1982، وذلك من طريق الإشارة إلى أحداثٍ بارزة في حرب لبنان ألهمت الشاعر الفلسطيني الراحل، محمود درويش، لذكرها في نصّه "مديح الظّلّ العالي"، وأخرى تجري في حرب الطّوفان اليوم، ألهمت لاقتباس كلمات درويش؛ للتعبير عن الحضورِ الأميركيّ وراء كيان ساهمَ بتشكيلهِ وإمداده، أو عن الموقفِ العربيٍّ المُتخاذل، أو عن السّعي الإسرائيليّ الدّائم نحو "هجرةٍ أُخرى".
أما عن أميركا، فقد وصفها درويش في نصّه بالطّاعون "أمريكا هي الطاعون والطاعون أمريكا"؛ فهي من أعطت إسرائيل في ذلك الوقت الضّوء الأخضر لشنّ حرب واسعة على الفلسطينيّين في لبنان، ومنهم مُنظمة التّحرير الفلسطينيّة، ذلك حسب ما ورد في بعض المصادر، وما تضمنه محضر اجتماع عُقِدَ بين رئيس حكومة الكيان الأسبق، مناحيم بيغن، والرّئيس الأميركيّ الأسبق، رونالد ريغان، بالإضافة إلى المحاورات التي جرت بين وزير الدّفاع الإسرائيليّ آنذاك، أرييل شارون، وموفد ريغن، قُبيل ارتكاب فاجعة صبرا وشاتيلا "ليلٌ طويل يرصدُ الأحلامَ في صبرا"، وأمام العديد من "صبرا وشاتيلا" التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيليّ في غزة حاضرًا نعود لنقتبس ما أورده درويش في نصّه حول أميركا: "وأمريكا على الأسوارِ تُهدي كُلّ طفلٍ لعبةً للموتِ عُنقوديّة... نفتحُ عُلبة السّردين، تقصفها المدافع"، وذلك على سبيل الإشارة إلى الصواريخ الأميركيّة التي تقصف إسرائيل بها قطاعَ غزة استهدافًا لأكثرَ من طفلٍ وعلبة سردين، فتستهدفُ عربة المُسعف وسماعة الطّبيب، عدسة المصوّر وقلم المُثقّف، صوتُ الحقِّ وصورةُ الواقع.
من المُمكن إدراك الموقف العربي آنذاك من خلال الإمعان بسطر درويش: "عربٌ أطاعوا رومهم"، واقتباس هذا السّطر في حدثنا الحاليّ يُشير إلى إدانة الشّعب الصّريحة للحكومات العربيّة؛ لعدم اتخاذها (حتى الآن) لأيّ إجراءٍ واضح يوقف العدوان على غزة، واكتفائها بالخطابات "فأنكروك لأنهم لا يعرفون سوى الخطابة والفِرار"، وبذل جهودها أمام روم العصر لفتح المعابر؛ لإدخال المساعدات ومياه الشُّرب "يبذل الرّؤساء جهداً عند أمريكا لتُفْرِجَ عن مياه الشربِ/ كيف سنغسل الموتى؟"، ولكن أموات غزة يُدفنون دون غسل.
أمام العديد من "صبرا وشاتيلا" التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيليّ في غزة حاضرًا، نقتبس ما أورده درويش في نصّه حول أميركا "وأمريكا على الأسوارِ تُهدي كُلّ طفلٍ لعبةً للموتِ عُنقوديّة...
وأما عن السّعي نحو "الهجرة الأخرى"، فمن المُمكن اعتباره هدف إسرائيل الكائن وراء كلتا الحربين؛ فإن خطّطت في ذلك الوقت لإخلاء جنوب لبنان من الفلسطينيّين بذريعة "سلام الجليل"، فالآن تخطّط لإخلاء غزة بذريعة "وجود المخربين". فخرجت بخريطة الشرق الأوسط الجديد، وأصدرت قراراً يدعو سكان جنوب قطاع غزة إلى إخلائه والتّوجه نحو الجنوب، وبين الشّمال والجنوب نصبت كميناً للموت، كما السيادة التي تسعى لنصبِها فوق الرّماد "ما تريدُ؟ سيادةً فوق الرّماد"، فَلْتخسأ؛ لأنّها لا تعرفُ أنّ الرّماد يُخلّفُ العنقاء لا سيادتها "فاظهر مثل عنقاء الرّماد مِنَ الدّمار".
أمام ما حدثَ وما يَحدُث، ما زلنا بانتظار نشرة أخبارٍ جديدة حول ما سيحدث "فهل سيسفر موتنا عن دولةٍ أم خيمـة؟"، يظهر بايدن على شاشة التّلفاز ليؤكّد أنّ إسرائيل لديها ما تحتاجه للرد على الهجمات، بعدها بقليل يظهر رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، ليشكرَ أميركا على جهودها ومساندتها لهم، لا جديد، سوى مُقاربة بين كمية المُتفجرات التي ألقتها إسرائيل على غزة خلال الطّوفان وحجم القُنبلة الذّريّة التي ألقتها الولايات المُتحدة على هيروشيما خلال الحرب العالميّة الثّانية "يا هيروشيما العاشقِ العربي أَمريكا هي الطّاعون/ والطّاعونُ أمريكا".