فلسطين والأسطورة عند عز الدين المناصرة
يُعدُّ عز الدين المناصرة من أبرزِ الشُّعراءِ الحداثيين الَّذين أدخَلوا الأسطورة في سياقها الفلكلوري إلى خطابهم الشِّعري، ويعودُ ذلك إلى رغبته مُنذُ الصّغر في العودة إلى " تاريخ ما قبل التّاريخ " أو مرحلة الطّفولة البشريّة التي تتّخِذُ من نسجِ الأساطير مظهرًا من مظاهرها؛ فالأسطورة ضربٌ من الخيال الذي خلّفه الفكر الإنسانيّ القديم؛ تفسيرًا للعديد من الظواهر التي لم يواكبها العلم بعد، ثُمّ ارتبطت الأسطورة بالأدب ارتباطًا وثيقًا؛ فاعتُبِرت المنبع الأصيل للإلهام الأدبيّ، واعتُبِرت أنّها شيء يلتحمُ بالشّعر ولا ينفصل عنه، كما أشارَ فريدريش شليجل.
ولتوظيف المناصرة للبعد الأسطوري في شعره منطلقاتٌ ومآلات تتعدّى توثيق ارتباط الأسطورة بالشعر العربي الحديث؛ فبالإضافة إلى توظيف التّراث والموجودات جعل المناصرة من قصائده ساحة ملحمية تتربّع عليها العديد من النماذج الميثولوجيّة التي عكس خلالها كلّ ما هو فلسطينيّ، كالمكان أو الحدث أو المثقف والمرأة، ثم ترك لنا ما بين الأسطورة وفلسطين فسحة بيضاء للتأويل.
تُعدُّ أسطورة أندروميدا من الأساطير اليونانيّة التي وظفها مناصرة في قصيدته "صخور أندروميدا"، كرمزٍ لخصوصيّة المكان (فِلَسْطِين)، إذ يقول في قصيدته:
أندروميدا
مربوطة بالسلاسل في الصخور السوداء
البحر ذليلٌ عند قدميها
تتباهى بأجنحتها وضفائرها
أعطنا مما أعطاك البحرُ
تلومنا الشمس والبحر زعلانٌ علينا
غمامة العطر تهبطين فوق الموجه
يرسم الشّاعر في هذه الأبيات صورة أندروميدا بطلة الأسطورة اليونانيّة، وهي مربوطة بالسلاسل على صخور البحر، وتنتظرُ أن تُقدّم قربانًا لإله البحر نيروس، ولكنّها سرعان ما تُحرّر من كبير الآلهة بيرسيوس بن زيوس.
ترك لنا المناصرة ما بين الأسطورة وفلسطين فسحة بيضاء للتأويل
والجامع الذي يربط بين أندروميدا وفِلَسطين هو القيد الذي سبّبه الجمالُ والجلال؛ فأندروميدا قُيّدَت بسبب مقولة أُمِّها أنّها أجمل البنات، وأجمل من بنات نيروس وهو إله البحر، وفلسطين احتُلّت لأنّها أجمل الأماكن، وأخذت بدفعِ ثمن جمالها كما فعلَتْ أندروميدا، ولكنّها لديها من يُحررها كما أندروميدا.
ومن الرّموز الأسطوريّة التي وظّفها المناصرة ليشير إلى الحدث الذي رافق فلسطين في عام 1982، وهو مغادرة منظمة التّحرير الفلسطينيّة من لبنان بعد حصار بيروت؛ أسطورة إيكار، إذ يقول المناصرة في قصيدته "تشمُّع كبد إيكار":
بيني وبين إيكار.. مسافاتٌ ضوئيّة
ومع هذا، فنحن نلتقي
في نقطة واحدة من العالم
ليلاً دون أن يرانا أحدْ
رغم أن الليل في بيروت مثلاً
ليس شرطًا لستر الأسرارْ
والجامِع الذي أراده المناصرة للربط بين قصة إيكار وخروج منظمة التّحرير الفلسطينيّة من لبنان، هو سوء الإدارة والتّدبير؛ فأثناء محاولة إيكار ووالده ديدالوس الخروج من قصر الملك مينوس، صنع ديدالوس أجنحة له ولابنه وألصقها بالشّمع، وأوصى ديدالوس ابنه بأن لا يطير لمسافات بعيدة حتى لا يذوب الشّمع بواسطة الشّمس، ولكن إيكار لم يستمع لنصيحة والده فاقترب من الشّمس وذاب الشّمع وسقط في البحر، وإن ذاب الشّمع الذي على أجنحة إيكار بالشّمس، فالمناصرة سيذوبُ في منفاه، فمنذُ مُغادرة المناصرة من الخليل وهو يتنقلُ بين المنافي، وكانت تونس أحد هذه المنافي التي سكنها المناصرة بعد مغادرته بيروت، ففي مقارنة نفسه في إيكار يقول:
هو سيحترق بشمسه
و أنا سيُذوّبني المنفى
هو يتّحد بعباءة العُشب السماوي
وأنا أتحلَّلُ في تراب المنافي الصخرية
تلك مشيئة عدم التخطيط يا إيكاروس
أمّا عن الرموز الأسطوريّة التي وظّفها مناصرة للإشارة إلى الفلسطينيّ فهي كثيرة، ومنها: زرقاء اليمامة، وطائر الفينيق والجامعُ بين الفلسطينيّ وزرقاء اليمامة هو العقابُ الذي سبّبه التّنبّؤ بالمستقبل، والشّعور بالخطر قبل وقوعه، فإنْ عوقِبت زرقاءُ اليمامة بقلع عينيها لأنّها تنبّأت بخطر الجيش، فالفلسطينيّ كذلك عوقِب باحتلال أرضه والتّنكّل بها من الاحتلال لأنّه تنبّأ بخطورته وقُبحِ نواياه وحاول صدّه وردعه، ويذكرُ المناصرة في قصيدته "زرقاء اليمامة" بعض مظاهر العذاب التي مارسها الاحتلال على الشعب الفلسطينيّ عقب عام 1948، فيقول:
لكنْ يا زرقاء العينين ويا نجمةَ عتمتنا الحمراءْ
كنا نلهث في صحراء التيهْ
كيتامى منكسرين على مائدة الأعمامْ
ولهذا ما صدَّقكِ سوايْ:
تخبأتُ ﻓﻲ عُبّ داليةٍ، ثم شاهدتُ من فتحة ضيقهْ
سكاكينهمْ.. والظلال
ثم شاهدتُ مجزرةً لُطّختْ بالرمالْ
وشاهدتُ ما لا يقال
كان الجيشُ السفّاحُ مع الفجرْ
ينحر سكانَ القريةِ ﻓﻲ عيد النحرْ
يُلقي تفّاح الأرحام بقاع البئرْ.
وعلى الرّغم من كُلّ مظاهر العذاب الذي تعرّض له الفلسطينيّ، إلّا أنّه سيُبعَثُ من جديد كما طائرُ الفينيق.
وليس طائر الفينيق وحده من عبّر عن انبعاث الفلسطينيّ من جديد في شعر المناصرة، فقد وظف المناصرة كذلك أسطورة أدونيس وأفروديت في شعره، فيقول في قصيدة "أُغنيات كنعانيّة":
طَلَت السفحَ دما
من وركِ أدونيسَ المذبوح
وسقتنا ندما.
أحببتُ الموت هنا
حيث أموت وحيداً منفردا
ابتعدي عني، ابتعدي عن ذاكرتي
أنت سُدى
ما زلتُ أقارع هذا الخنزير البريْ
وعلى رأسي ينهمر المطر الكنعانيْ
من بطن سحابة
من قلب الغابة
تأتيني عشتار تلملمني.
وإن صارع أدونيس الخنزير البريّ ومات وبُعِث من جديد؛ فالفلسطينيّ ما زال يُصارع هذا الخنزير، وما زال يُبعثُ من جديد كُلّما تلقّى طعنة منه.
ودم أدونيس الذي سال في قصيدة المناصرة أسفر عن ظهور شقائق النعمان التي كلّلها درويش باسم الزهرة الوطنيّة، فيقول:
وبحثنا عن زهرتنا الوطنيّة
فلم نَجِد أفضلَ من شقائق النُّعمان
التي سمّاها الكنعانيّون
جراح الحبيب
ولم يغفل المناصرة عن استحضار الأساطير التي ترمزُ إلى مصير المُثقّف الفلسطينيّ، وفي اختصار هذا المصير يتواردُ في ذهني إحدى قولات ناجي العلي: "اللي بدو يكتب لفلسطين، واللي بدو يرسم لفلسطين، بدو يعرف حالو: ميت" ، والموت الذي يلاحق المُثقّف الفلسطينيّ؛ لما يسعى له من إمداد الشّعب بالمعرفة والحقيقة، وتوجيه بصيرته نحو "مؤامرة الأعادي والصّحاب"، أشبهُ بالعقاب الذي تعرّض له بروميثيوس بطل الأسطورة اليونانيّة، عندما سرق شعلة النّار المُقدّسة من كبير الآلهة زيوس ووهبها للبشر، وفي وصف هذا العقاب، يقول المناصرة في قصيدته "يتوهج كنعان":
حنانيكِ يا حارةً في الخليل
يقينٌ على تلَّةٍ سرقوا قلبه،
جبلٌ قرب قريتنا ويطل على البحر،
والبحر ميتٌ يفاصل زلزاله الأبديَّ،
وأحجاره مرمرٌ،
واسألوا البرلمان البعيدْ
وعلى الرّغم من عدم ذكر المناصرة لاسم "بروميثيوس" في هذه السّطور، إلّا أنّه يُضمِّنُ الاسم في المكان ويقاربُ بين الجبل الذي نُهِشَ عليه كبد بروميثيوس، وتلة يقين التي نهشتها مستوطنة بني حيفر، ثم يترك للقارئ "فسحة صمتٍ بيضاء؛ من أجلِ التّأويل"، وفسحةُ الفلسطينيّ واقعه، وقرينةُ تأويله الأسباب التي مات بها من يكتب لفلسطين ويرسم لفلسطين، أو الأسباب التي فرَطت بناجي العلي، وغسان كنفاني، ورُبما بتوفيق زيّاد.
تتماهى "بينيلوبي"، بطلة الأسطورة اليونانيّة، مع "جفرا"، بطلة القصائد المناصريّة، وتشتركُ بينيلوبي التي تنتظرُ عودة زوجها بوفاءٍ وإخلاص من رحلته الطّويلة، مع جفرا (المرأة الفلسطينيّة) التي تنتظرُ عودة كلّ ما ذهبَ منها بوفاءٍ وإخلاص؛
جاء الشّتاء المر جاء العيد
ويَجيء ما بعد الشّتاء
وتظلّ عيناك المُعذّبتان تنتظران عودَتهُ
من البلد البعيد.