حفاة عراة خلال ثلاث عدّات
الزمان: الخميس 13-1-2011، درجة الحرارة تحت الصفر، الرياح في الخارج تعوي بجنون مخترقة فتحة حمص الجبلية، محملة بحبيبات مطر تخترق وجهك وكأنها إبر من نار!
الحدث: العاشرة ليلاً وصلنا إلى الفنادق، و"الفنادق" مصطلح مخادع، كما كل شيء في سورية المقاومة والممانعة، يُطلق على الخرائب التي يعيش فيها الطلاب الضباط المجندون فترة تدريبهم الأولى في خدمتهم العسكرية الإلزامية، هؤلاء هم غالباً من الخريجين المهندسين والأطباء وأساتذة الجامعات.
ارتدينا كل ما لدينا من ثياب وتلفلفنا بالبطانيات العسكرية المقرفة الرائحة. وأخذ الجميع يستعد للنوم. كعادته، أعلن إبراهيم، الدكتور في جامعة حلب، انتهاء اليوم. وكعادتي قاطعته قائلاً: ينتهي اليوم عندما نستيقظ في اليوم التالي.
صرخ الجميع: اسكت يا متشائم.. فسكتّ!
لعلها كانت الساعة الحادية عشرة عندما سمعنا الصوت للمرة الأولى: عناصر دورة الطلاب الضباط المجندين... حفاة عراة في الساحة خلال ثلاث عدات.
ضحك الجميع من هذه النكتة السمجة في مثل هذه الظروف الجوية.
ولكن ضحكاتنا لم تدم طويلاً، فالجملة أعيدت مجدداً: عناصر دورة الطلاب الضباط المجندين... حفاة عراة في الساحة خلال ثلاث عدات. وأُلحقت بها بعض الشتائم الجنسية، وشتائم الذات الإلهية.
كان الصوت واضحاً، إنه النقيب...!
كانت ضريبة التأخر معروفة، إنها ضعفان من العذاب، يؤتيهما النقيب من يشاء! وخلال لحظات كنا سيلاً من لحم بشري يتدافع على الدرج، وللمرة الأولى لم أجد أحداً يخجل أو يحاول الابتعاد عن الآخرين، كان الجميع يحاول الالتصاق بالجميع، بكل ما أوتي من قوة في محاولة لاستجرار بعض الدفء، أو وقاية نفسه جنون الرياح المحملة بحبيبات المطر.
كنا جميعاً حفاة عراة، لا يقي أجسادنا إلا شورت خفيف. وقف النقيب أمامنا كدبٍّ قطبي يرتدي كلّ ما لديه، وأعلن بوضوح سبب حفلة التعذيب التي توشك على البدء: اثنان من زملائنا تغيّبا عن التفقُّد الأخير، ولن ينتهي اجتماعنا حتى يحضر المتأخّران أو نعترف بمكانيهما!
كان الأول ابن قائد لواء في الجيش، والثاني ابن ضابط معروف في فرع مخابرات، وجرت العادة أن يتمَّ استدعاؤهما بشكل رسمي من خلال مُكبِّرات الصوت، قبل أي تعذيب أو عقوبة جماعيَّة كانت في طريقها لطلاب الدورة! وكنّا نعرف بمجرد استدعائهما أن ثمَّة مصيبة قادمة. ولكن أين اختفيا هذه المرة، وفي مثل هذا الطقس المجنون؟
تحركنا إلى ساحة التدريب الإسفلتية، وهناك أُمرنا بالوقوف وفق تشكيل يجعل كل واحد منا يبتعد عن زميله الذي أمامه وخلفه ويساره ويمينه ثلاثة أمتار على الأقل من كل جهة. وهكذا خسرنا الدفء الذي كنا نتسوله من التصاق أجسادنا ببعضنا بعضاً.
بعد إتمام التشكيل طلب منا النقيب رفع أيدينا بشكل جانبي والثبات في هذه الوضعية، ثم أعلن أنه لن يعاقبنا هذه الليلة نظراً لحالة الطقس السيئة. وسيكتفي بالوضع الذي نحن فيه، وكأن ما نحن فيه ترفيه محض!
صمت ممزوج بقهر، كما هي الريح التي تسوِّط أجسادنا ممزوجة بحبيبات المطر. مرت 10 دقائق.. سقط الأول، سقط كتمثال طاغية حجري. وسريعاً نقلته سيارة إسعاف إلى مستشفى حمص العسكري.
10 دقائق أخرى سقط الثاني، كان واضحاً أن الفتى أصيب بشلل ما في وجهه، وكحال الأول نقلته سيارة إسعاف إلى مستشفى حمص العسكري.
ثم الثالث والرابع، الصوت الوحيد الذي كان يقطع صمتنا وعواء الرياح هو صوت ارتطام الأجساد المتخشبة بالإسفلت، وصوت سيارة الإسعاف التي تنقل زملاءنا إلى حمص.
مرت 40 دقيقة، ثم طلب منا النقيب إنزال أيدينا والانصراف إلى الفنادق، لأننا "محض نساء حائضات وأبناء عاهرات"، لا نستحق أن نكون رجالاً، وشهاداتنا الجامعية كلام تافه لا قيمة له، وسيمنحنا شرف استعمالها كورق تواليت.
عدت إلى سريري بعد حمام بدلو ماء مثلج لم يشعرني القهر ببرودته، جلست في سريري، كان الجميع جالساً، ولكن أحداً لم ينطق بكلمة، ساعة كاملة مرت، كان الصمت سيدها الوحيد، ثم بدأ النوم بالتسلل مجدداً للعيون. أخرجت ورقة مذكراتي ودونت ما حدث على ضوء مصباحي الجيبي، مط إبراهيم رأسه نحوي وقال: إذا أمسكوا بك سيفرمونك! قلت: لجهنم!
في اجتماع صباح اليوم التالي، كان الطالبان الغائبان عن الاجتماع الليلي يضحكان بشكل هستيري وهما يحدثان الجميع، كيف دعاهما النقيب لتناول كأس في مكتبه، وكيف تراهنوا جميعاً إن كان قادراً على تعذيب الدفعة في ذلك الطقس العاصف... وكيف طلب منهما الانتظار في غرفته بينما يثبت لهما أنه قادر على كسب الرهان.
ضحك من كان حولهما، وحده صديقنا المهندس المشلول الوجه، كان واقفاً يستمع إلى الشابين، دون أن يبتسم، كان أمامه أسابيع طويلة قبل أن يتمكن من الابتسام مجدداً.
ملاحظة: جميع أحداث هذه التدوينة حقيقية، وأي تشابه بينها وبين الواقع هو تشابه مقصود!