حين لا يجد الإنسان ما يفعله... ماذا يفعل؟
سعيد ناشيد
ما أن يجلس المرء على كرسي الانتظار، منتظرًا مرور الوقت، حتى تجمح يداه إلى التخريب: فقد يخدش الطاولة التي أمامه بالمفتاح، أو يُمزّق الورقة التي بين يديه إرباً إرباً، أو يفرك جبهته إلى أن يحمرّ، أو يلوي أصابعه إلى أن تتفرقع، أو يقضم أظافر أصابعه، أو يفقأ حبيبات على وجه، أو (ولأننا في عصر الآيفون) قد يُخرج مرآته السحرية من جيبه لإلهاء الذهن واليدين بكلّ أنواع الإثارة.
كان الفيلسوف الفرنسي، بليز بسكال، دقيقاً في قوله: "كنتُ دائما أقول، شقاء الناس له سبب واحد، أنهم لا يعرفون كيف يمكثون داخل مساكنهم" (الخواطر). إنّ الذي يجعل الناس لا يمكثون في مساكنهم بهدوء وسلام أنهم لا يعرفون إلى أين يوجّهون تفكيرهم حين لا يكون عليهم أن يفكروا في شيء محدّد!؟ كما لا يعرفون ماذا يفعلون بأيديهم حين لا يكون عليهم أن يعملوا شيئاً محدّدًا!؟
لذلك، قد نرى يدًا جامحة تداعب شفرة سكين، أو تفرك قداحة حارقة، أو تخدش حائطاً جميلاً، أو (أكثر من ذلك كله) فقد تتوّرط في جرائم شنيعة.
تكسير الملل مثل تكسير قشرة الجوز، في غياب المهارة قد يتحطم كلّ شيء. التكسير السيئ للملل معناه اتخاذ قرارات سيئة في الحياة، مثل الإدمان، القمار، المخاطرة المجانية، العلاقات السامة، إلخ. بل هناك ما هو أشدّ سوءًا، ويا للهول! يكفي أن نسأل غوغل عن "الجريمة بدافع الملل"، حتى نقرأ ما يكفي من الأهوال.
في العام الماضي، 2022، تناقلت وكالات الأنباء العالمية خبر قيام حارس أمن روسي بتخريب لوحة "الأشكال الثلاثة"، لآنا ليبورسكايا، والتي تُقدّر قيمتها بأكثر من مليون دولار، حيث أحدث خدوشا بقلم حبر جاف، حين حاول أن يجعل للوجوه الثلاثة دوائر مكان العيون الممسوحة، وذلك كله بدافع الملل كما قال.
تكسير الملل مثل تكسير قشرة الجوز، في غياب المهارة قد يتحطم كلّ شيء
أكثر من ذلك، فقد سبق لثلاثة مراهقين أميركيين أن أقدموا في ولاية أوكلاهوما عام 2013على قتل عابر سبيل، ثم لاذوا بالفرار قبل القبض عليهم لاحقا، ليعترفوا بأنّ دافعهم إلى الجريمة هو الملل. لقد فضلوا المأساة على الملل، تماماً مثلما فعل السيد ميرسو في رواية "الغريب"، لألبير كامو، حين قتل شخصاً لا يعرفه، ولا يعرف لماذا قتله؟ فلم يجد من ثم ما يقوله في المحكمة غير الصمت المريع. لعلها أول جريمة بدافع الملل في تاريخ الأدب العالمي، إلا أنّ التعبير لم يكن متاحاً وقتها.
وفي عام 2015 حكم على الممرض الألماني، نيلز هوغل، بالسجن المؤبد بتهمة قتل عشرات المرضى في قضية هزت الرأي العام. أثناء المحاكمة اعترف المجرم، بأنه كان يحقن ضحاياه بجرعات كبيرة من الأدوية ليوصلهم إلى حافة الموت، ثم يظهر لنفسه القدرة على إنعاشهم مجدّدا، وذلك كله بدافع الملل كما قال. وهو القول الذي لم تنفه التحقيقات في كلّ مراحلها.
وفي عام 2021، قتل شاب تركي مهندسة معمارية تدعى، باشاك جنكيز، في مدينة إسطنبول، بسيف ساموراي، قبل أن يقرّ في كلّ مراحل التحقيق بأنه لا يعرفها، لكنه نزل إلى الشارع لكي يقتل عشوائياً أي شخص يراه، بدافع الملل كما قال. وهو القول الذي لم تنفه التحقيقات كذلك.
أولئك كلهم، وآخرون مثلهم، فضلوا العيش في المأساة على العيش في الملل. أهوالهم كثيرة ومثيرة. لكن يخطئ من يظن بأنّ جرائم الملل ظاهرة جديدة ترتبط بتطوّر الحضارة، هي ليست جديدة، لكن الجديد هو اكتشاف إمكانية التعبير عنها، إمكانية النطق بها، إمكانية قولها، ولقد كانت سابقا تُطمس تحت يافطة الجنون أو المجون، أو بعض التفسيرات الأسطورية أحيانا. وإذا كان سيوران كيركغارد، يعتبر "الملل أصل كلّ الشرور" (إما / أو)، فيمكننا القول: الإنسان هو الكائن الذي إذا لم يجد شيئا يفعله فقد يفعل أيّ شيء!!