دليلك لركوب الترند... الاضطرابات في كازاخستان
تجلس إلى طاولتك وأمامك لابتوب مفتوح على ملف وورد أبيض، كعقلك تماماً، أمامك مهمة صعبة، أن تخطّ مقالاً عظيماً لا ينتظره أحد سوى المحرر الذي سيلعن الساعة التي ابتلاه الله فيها بمقالاتك. 500 كلمة يجب أن تجترحها من المجهول لتحصل مقابلها من صديقك في إدارة الموقع على 100 دولار أميركي، ولقب "كاتب ومحلل استراتيجي" من صديقه المعدّ التلفزيوني.
ندرك في "هلوسات برس" مأزقك، ورغبة منا في مساعدتك سنقدم لك خطوات بسيطة تساعدك على الكتابة في أي موضوع كان، حتى تلك التي لا تعرف عنها شيئاً، كما هي العادة، لتصبح خبيراً كبيراً.
شاغل الرأي العام العالمي هذه الأيام هو المظاهرات في كازاخستان، ومن غير المنطقي أن تمر هذه القضية من دون أن تكتب عنها وتحللها وتدلي بدلوك مع الدلاء. لا تقلق، نعرف أنك لا تعرف شيئاً عن كازاخستان.
ركّز أولاً على الهدف الأساس فقط، 500 كلمة، هذا ما يجب أن تصل إليه. وفي هذا الإطار، يجب أن تعرف أن كازاخستان فيها ميزة حلوة، الأسماء فيها ثلاثية! نعم، فالرئيس الحالي اسمه قاسم جومارت توكاييف، والرئيس السابق اسمه نور سلطان نزارباييف، وإذا اتبعت حركة ذكية بفصل "نزار" عن "باييف" سيصبح اسمه رباعياً، وإذا كررت الاسمين في مقالك ثلاث مرات على الأقل، يكون المجموع 21 كلمة، يا عزيزي 500 كلمة تبدأ بخطوة!
شددّ على أن كازاخستان هي في "قلب آسيا الوسطى"، كررها مرتين أو ثلاثاً، وأنها تاسع أكبر دولة في العالم، ومساحتها 2,725,000 كم²، يمكنك أن تحصل على هذه المعلومات التي لا تفيد أحداً من ويكيبيديا، اجعل ويكيبيديا صديقتك الدائمة في مقالاتك! وككل الدول في العالم، فإن مركزها استراتيجي وحساس، ولا بأس لو فرشت بـ150 كلمة عن تاريخها وحب أهلها للخيول وأكل اللحوم، وأنها كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي، ويمكنك هنا أن تنتقل إلى سياسات الاتحاد السوفييتي القمعية وتتحدث عن ماركس ولينين وستالين الملاعين بمئة كلمة!
لا داعي للجواب، تساءل فقط، هذا يجعلك كاتباً أعمق، فالأسئلة تثير الإعجاب أكثر من الأجوبة، لا أحد ينتظر الأجوبة
تحدّث عن ثرواتها، النفط والغاز واليورانيوم، وهنا يمكنك أن تكون عميقاً، فتتحدث عن أبعاد الأزمة الدولية التي قد تحيق بسوق الطاقة، وهل سيدعم ذلك التوجّه نحو الطاقة النظيفة وأهداف مؤتمر غلاسكو؟ أم أن أسعار الطاقة سترتفع وتكون الأزمة فرصة للدول النفطية لتجني المكاسب؟ وما تأثيرات ذلك كله على التعافي في الأسواق العالمية بعد أزمة كورونا، وحلل العلاقات المحتملة بين متحور أوميكرون والأزمة الكازاخستانية. ملاحظة: إذا قلت "كازاخية" ستبدو أكثر عمقاً وثقافة.
أما اليورانيوم فذلك حكاية لوحده، قل للقارئ إن كازاخستان تنتج نصف يورانيوم العالم، وإن أميركا تأخذ منها ربع اليورانيوم الذي تحتاجه... ثم تساءل عن تبعات ذلك على الطاقة النووية في العالم، والمشروع النووي الإيراني وتأثيرات ذلك على مفاوضات فيينا، وعلى مشروع الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، لإنشاء محطات طاقة نووية جديدة... لا داعي للجواب، تساءل فقط، هذا يجعلك كاتباً أعمق، فالأسئلة تثير الإعجاب أكثر من الأجوبة، لا أحد ينتظر الأجوبة.
يمكنك أيضاً أن تتحدث عن محطة إطلاق المركبات الفضائية في كازاخستان، وتأثيرات الاضطرابات فيها على الرحلات الفضائية وجهود استكشاف الفضاء، وكم سيؤخر ذلك وصولنا إلى المريخ، وكيف سيستفيد أيلون ماسك ومشروعه "سبيس إكس" من القصة!
الآن يمكنك الحديث عن الحياة السياسية في كازاخستان، فنور سلطان نزار باييف "4 كلمات" فاز بخمس ولايات رئاسية وبنسب كلها فوق 95 بالمئة، هنا يمكنك أن تستطرد بـ50 كلمة عن أنه يشبه الرؤساء العرب والانتخابات العربية. ولا تنسَ أن تتحدث عن العاصمة الجديدة، التي بناها "أستانة"، ولا تنسَ أن تذكر أن معناها هو "نور سلطان"، كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان على المحرر! وعند ذكر "أستانة" من المعيب ألّا تذكر "محادثات أستانة" بين الأطراف السورية والضامن التركي والإيراني والروسي والمراقبين من العراق ولبنان والأردن، عددها كلها، ماذا؟ ذلك موضوع مغاير؟ اكتب اكتب... ما الذي كتبته أنت أصلاً وله علاقة بالموضوع الأصلي؟ ضايقتك محادثات أستانة!
اذكر أن الرئيس الحالي، قاسم جومارت توكاييف "3 كلمات"، هو واجهة يتخفى وراءها الرئيس السابق، نور سلطان نزار باييف، كرر اسمه. وهنا تحدث عن إسقاط التمثال، وشبّه ذلك بإسقاط تمثال صدام حسين، وقل: "في بغداد في الغزو الأميركي للعراق عام 2003" فهذه ثماني كلمات. ومن هذه الزاوية الذكية أدخل الولايات المتحدة في القصة. واطرح أسئلتك الوجودية الكبرى بخصوص التوقيت؛ لماذا في هذا الظرف التاريخي الدقيق واللحظة المفصلية من عمر العالم بعد أزمة كورونا؟ ولماذا الآن وأزمة أوكرانيا في أوجها؟ هل هي محاولة لإشغال روسيا والصين؟ هل ستختلط أوراق بوتين ويقع بين مطرقة أوكرانيا وسندان كازاخستان؟ قوية هذه بين المطرقة والسندان لا يملّ أقرانك منها! هل سيتنازل الرئيس الصيني شي جين بينغ عن تايوان؟ وما تأثيرات الاضطرابات على المحادثات الروسية الأميركية في جنيف؟ ويمكنك الحديث أيضاً عن ثورات أوكرانيا وجورجيا وتاريخ الثورات عموماً في دول الاتحاد السوفييتي.
اطرح أسئلتك الوجودية الكبرى بخصوص التوقيت؛ لماذا في هذا الظرف التاريخي الدقيق واللحظة المفصلية؟
تحدث باستطراد عن "منظمة الأمن الجماعي" التي تم إرسال قواتها إلى كازاخستان لحفظ السلام، تحدث عن تأسيسها وكيف أنها أداة بوتين الجديدة لفرض السطوة واستعادة أمجاد الاتحاد السوفييتي، لا تعرف شيئاً عنها؟ إلى ويكيبيديا يا عزيزي، فهي ضالة كل محلل استراتيجي!
تساءل عن دور الولايات المتحدة في هذه الاضطرابات، وهنا قل الولايات المتحدة ولا تقل أميركا أو واشنطن، فتكسب كلمة. ثمّ تساءل مجدداً: هل ما يجري هو امتداد "لما أطلق عليها اسم ثورات الربيع العربي" قل "ما يسمى أو ما أطلق عليها" فهذه الموضة الآن. ولا تنسى أن تستطرد بـ50 كلمة عن ثورات الربيع العربي التي كانت وبالاً على شعوب المنطقة وباباً للتدخل الأميركي، وتساءل أيضاً عن دور الإخوان المسلمين في الحراك الكازاخي، وعلاقاته بحركة الإخوان في مصر، وما علاقة ذلك بالعنف وسقوط القتلى؟ وهل استعملتهم الدول الإمبريالية لتنفذ خطتها في ضرب روسيا لأنها تخاف من بوتين فلا تجرؤ على التدخل المباشر. ولا بأس من التساؤل عن قدرة الجيش الروسي على تغطية كازاخستان والحدود الأوكرانية وسورية... يمكنك هنا الاستطراد بخمسين كلمة عن قدرات الجيش الروسي وعديده وعتاده... من ويكيبيديا بالطبع!
الآن قاربت على الانتهاء، وصلت إلى الخاتمة، التي يجب أن تكون أعمق من كل ما سبق، بحيث يغرق فيها القارئ إلى غير رجعة. تساءل عن آفاق هذا الحراك الكازاخي، وهل ستنتقل "الثورة"، ضعها ضمن قوسين، إلى دول الجوار؟ هل ستصل إلى روسيا؟ هل ستصل إلى إيران؟ ما علاقتها بطالبان؟ ما خطر ذلك على النظام التركي؟ وكيف ستشكل دعماً للثورة في سورية؟ وما تأثيراتها على وجود مرتزقة فاغنر الروسية في ليبيا ومالي؟
لقد انتهيت ولدينا لك خبر حزين وآخر سعيد؛ الأول أنت لم تتحدث عن الشعب في كازاخستان ومطالبه وهمومه ولماذا تحرك أصلاً وماذا يريد.. وهذا غير مهم في الحقيقة، الثاني وهو الأهم، لقد تجاوزت منذ زمن طويل 500 كلمة في موضوع لا تعرف عنه شيئاً.. أهنئك!
لا تقرأ ما كتبت، إياك، أرسل الملف فوراً إلى المحرر، فشغله أن يفك طلاسمك وأن يعرف الكلمات التي تظن أنك كتبتها وتلك التي كتبت نصفها، وغداً سترى المقال منشوراً، شاركه على صفحتك على فيسبوك وتويتر وأرسله لكل أصدقائك على واتساب!
*هذه المدونة هلوسات من صاحبها ولا تمت للخبر بصلة..