ديمقراطيات هجينة

29 أكتوبر 2024
+ الخط -

شهدت العديد من الدول العربية استحقاقات انتخابية (برلمانية، رئاسية...) أدّت إلى تنصيب برلمانات جديدة وتكريس رؤساء سابقين. فهل ينتهي الأمر عند هذه النقطة، وكفى الديمقراطيين "شرّ" النضال، أم أنّ هذا، لا يمنعنا من طرح سؤال الديمقراطية في العالم العربي؟

الديمقراطية أساسًا هي فلسفة لتدبير الشأن العام بمشاركة الجميع، نتجت عن تراكم فكري وسياسي، ابتدأ مع فلاسفة الحق الذين تخيّلوا، في ظلّ تأملاتهم حول الفرد والمجتمع والدولة، وضعًا سابقًا للاجتماع البشري، حيث تسود الحرية المطلقة، واستنتجوا من ذلك مجموع الحقوق التي يمكن أن يتمتّع بها الإنسان في مثل هذه الحالة.

مجموع هذه الحقوق اصطُلح على تسميتها بالحقوق الطبيعية، التي انبثقت عنها القوانين المدنية، مقابل الحق الإلهي، المبدأ الذي قامت عليه القوانين الوضعية التي سادت خلال العصور الوسطى وما قبلها، وأهم هذه الحقوق الحرية. وبما أنّ الحرية لا يمكن إطلاقها، أسّس فلاسفة الحق لما سُمّي بالعقد الاجتماعي الذي بموجبه يتخلّى الفرد عن جزء من حريته لصالح الجماعة، دون أن يكون هذا التفويض دائمًا أو مفتوحًا. 

ثم تأتي الانتخابات ليختار المواطنون من سيتولى سنّ القوانين التي يجب أن يتقيّد بها الجميع، وعلى الذين يعارضونها تنظيم صفوفهم داخل تنظيمات سياسية، تسعى بالطرق السلمية، إلى تمرير وجهات نظر مناضليها، إذا حازوا الأغلبية في انتخابات تجرى بشكل دوري، فيما يسمّى بالتداول السلمي للسلطة. 

لا يزال سؤال الديمقراطية في بلادنا مشروعًا والنضال من أجلها مستمرًّا

لكن، هذا التداول السلمي للسلطة لا يعني الانقلاب على الديمقراطية، كما وقع مع الأنظمة الفاشية بداية القرن الماضي في أوروبا. من هنا جاء مبدأ فصل السلطات الثلاث، فالقوانين التي تسنّها السلطة التشريعية يجري فحصها من قبل السلطة القضائية على ضوء دستور مُتوافق حوله، باعتباره أسمى قانون في الدولة، المعبّر عن إرادة الأمّة والضامن للحقوق الفردية والجماعية للمواطنين، والذي يعكس بالضرورة روح المواثيق والعهود الدولية التي توافق حولها المجتمع الإنساني، والمعبّر عنها في ميثاق الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، والمُصادق عليه من طرف الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تضم مجموع دول العالم...

مسار طويل ابتدأ على الأقل منذ عصر الأنوار تخلّله تراكم فلسفي وبناء سياسي وتحوّلات مجتمعية والكثير من الأحداث الدراماتيكية (حروب مدمرة، انقلابات دامية، تراجعات كارثية...) إلى أن استقرّ الوضع على ما نشهده اليوم في أوروبا بعد انهيار جدار برلين. ومع ذلك لا تزال هنالك بعض الجيوب التي تقاوم هذه التحوّلات، ممثلةً بالحركات اليمينية الشعبوية والفاشية.

يحدث هذا في دول لها تراث ديمقراطي عريق، فما بالك بدولنا؟ ومجمل التجارب السياسية التي عرفها العالم العربي لم تستطع كلّها ترسيخ قواعد ديمقراطية متينة. أمّا ما نشهده في جلّ الدول العربية من انتخابات برلمانية أو رئاسية فما هي إلا عمليات تقنية، الهدف منها إضفاء الشرعية على السلطات الحاكمة.

وعليه، فسؤال الديمقراطية في دولنا لا يزال مشروعًا والنضال من أجلها لا يزال مستمرًّا. والأكيد أنه ينتظرنا مسار طوير وتراكم مُعتبر حتى ترسي الديمقراطية الحقيقية دعائمها في مجتمع لا يزال يعيش على أنقاض الثقافة التي كانت سائدة في القرون الوسطى، رغم مظاهر الحداثة الزائفة التي نعيش في ظلّها.