رسالة من تحت الأنقاض
ماذا يمكن أن يكتب إنسانٌ يعيش في شمال دولة سُويّ جنوبها بالتراب في 60 ثانية؟ منذ أمس، فكرت كثيرًا وانعقد لساني أكثر؛ في الجنوب الشرقي التركي، زلزال أقعد الدنيا فلم تقم، وزاد الكارثةَ الإنسانية في الشمال السوريّ مأساويةً، هل أكتب عن هذا أم ذاك؟ هل أتحدث أم أصمت؟ بأيّ لسان أتكلم؟ بلسان نحو 4 آلاف فقدوا حيواتهم؟ أم بلسان أكثر من 20 ألف جريح رأوا الموت لساعات ثم نجوا بأعجوبة (أو ظنّ الآخرون أنهم بذلك نجوا؟)، أم بلسان نفسي، ونحن في شمال تركيا، نتذكر زلازلنا السابقة التي ترج الذاكرة، نتحسّس رؤوسنا، وقلوبنا، وأقدامنا، ونختبئ من الغيب؟
ما الذي كان في بال أحدهم، وقد كان نائمًا، وقبلها كان ساهرًا يضحك مع أسرته، ثم وجد نفسه فجأة من شهود الكارثة؟ كيف كانت لحظة الاستيقاظ الوحيدة قبل النوم الأبدي؟ وكيف كان القيام من النوم هذه الليلة على منبّه متوّحش؟ كيف كانت النظرة الأخيرة للأولاد، ولشريكة العمر، وللأم الغارقة في الهلع والدموع، وللأب العاجز إلا عن أن يموت صابرًا؟ كيف كانت تذهب تلك الأسَر جماعاتٍ إلى الحياة الأخرى، كأنهم يذهبون معًا إلى أحد مراكز التسوّق، لكن هذه المرّة لا يبحثون عن علامات تجارية، وإنما يبحث المنقذون فيهم عن علامات الموت أو الحياة؟
بمَ كان يشعر في احتضاره الأخير مَن ظنّ نفسه أفلتَ من الموت طوال 12 عامًا من المجازر في سورية، وتنقل من دار إلى دار، ونزح من مدينة إلى صحراء، ولجأ من بيت إلى خيمة، ورُحّل من خيمة إلى مخيم، ثم وجد جسمه في النهاية صريعًا بين سقفين؟ بم كان يشعر من وجد نفسه عالقًا بين طابقين، لا يدرك السماء ولا يدرك الأرض، وإنما يأتيه الموت من كلّ مكان، ويدركه مصيره بينما لا يدرك هو مصيرَه؟
الزلزال زلزال القلوب، والرجفة رجفة الأجسام، والارتعاد ارتعاد الفرائص
بعد الزلزال بساعات، تلبيةً لمطالب الحياة الضرورية، بينما يكتنفنا الخوف، نزلتُ لأشتري الخبز، فوجدت في عيون الناس (كل الناس) ما لم أجده من قبل؛ ذلك الخوف المهيب، الرعب الثقيل، الفزع الكبير، كلّها مجتمعةٌ في عينين تضيقان بالفاجعة، تكادان تنفجران من ارتفاع ضغط الدم فيهما، رغم أنّ هؤلاء لم يحضروا ما حدث، لكن الزلزال زلزال القلوب، والرجفة رجفة الأجسام، والارتعاد ارتعاد الفرائص، وليس شرطًا أن تكون هناك، حتى تهتز الأرض من تحتك، يكفي أن تشعر بهم، حتى تكونَ (رغم بعدك النسبيّ) معهم.
عبّأت حقيبتي العادية التي صار اسمها حقيبة الطوارئ، ببعض ما يلزمنا، جواز السفر الذي يوشك أن تنتهي صلاحيته، وبعض الأوراق المهمة، والأغذية، والضروريات، ولم أكن أتخيّل أنني سأضع احتمالية أن تنتهي صلاحيتي أنا أولًا، وأفكر، كيف سننزل كلّ هذه الأدوار، وأين سنحتمي، ومن الواقعية الواجبة في هذه الأوقات أن ندرس الأماكن، ونتبادل التوصيات، ونتفق على الأساسيات، رغم أننا نقول "بعد الشر"، لكن حين يقترب؟ تبدو الكلمة ساذجة، لكنها تجري بحكم روتين اللسان.
كل موتٌ هو موتٌ فرديّ بحدّ ذاته، وإن كان المرثى يشمل العدد كله
نحن؟ أضعف مما تخيّلت. في كلّ زلزال حضرته من قبل، وأحدها كان يهدّد بنايتي بالسقوط، وكنت وحدي، أنزل خمسة أدوار في عشرين ثانية، كنت ضعيفًا أيضًا، لكن مع مرور الوقت، وتكرار الخطر، تشعر بأنك أحقر، لا تملك لنفسك شيئًا، لا تملك اللحظة القادمة التي تخطّط فيها للهروب حتى، الكون كله بيد خالقه، يقلبه (كالقلوب) كيف يشاء، وأنت عبد تستقبل البلاء رضًا أو سخطًا، كلّ حسب مقدار إيمانه، لكن مع اختلاف درجات التسليم في الداخل، يبقى الخارج حاملًا التهديد نفسه للجميع، وهو أن يصير كومة من اللحم بين كومة من الحجارة في لحظة واحدة.
كان يومًا طويلًا، وكانت ليلة عصيبة، أمّا الأيام والليالي القادمة فهي أشدّ وطأةً، حين نكتشف أنّ البيانات الرسمية كانت تكشف عن أرقام، بينما يكتشف أصحاب الأرقام أنفسهم أنهم ليسوا كذلك، وإنما عبارة عن قصص، وحكايات، وذكريات، لا تحيلها المآتم الجماعية إلى ملخصات قصيرة، فكل موتٌ هو موتٌ فرديّ بحدّ ذاته، وإن كان المرثى يشمل العدد كله، وكل اسمٍ له دفتر عزاء منفصل، ولو كان السرادق نفسه واحدًا.
نعزّي الضحايا أم أنفسنا؟ نعزّي الضحايا السابقين أم الضحايا المنتظرين؟ على كلّ حالٍ، لا يكون العزاء إلا بعد مغادرة ملك الموت، وهو ما زال يتجوّل، يحصي الوافدين الجدد، ونسأل الله السلامة، وأن يقدّر لنا ما يراه خيرًا لنا. وهذه رسالة رجل من تحت أنقاض خوفه.