رمضان بين الأمس واليوم
كان شهرُ رمضان الكريم، أكثر شهر أحببته في طفولتي، حيث رائحة السفوف (طعام مغربي) قادمة من البيوت ومن الفرّان بعد العصر، الفتيات يحملن "طاوات" الحلوى، سوق السمك عند الخامسة مساءً أو قصبة وصنارة على ضفّة النهر. الأذانُ أخيرًا، وفراغ الشوارع والأزقة. رائحة الحريرة، التمر، الشباكية، الأسرة مجتمعة، وكلّ ما يُعرض على الشاشة يبدو مضحكًا.
التراويحُ ورائحةُ المسك ممزوجة برائحةِ الزرابي (سجاد مغربي) وعرق الآباء والأجداد عند كلِّ سجود. الإيمان لا يقلّ حلاوةً ولذةً عن حلوى الشباكية الوحيدة التي يمنحها لك البائع أثناء وقوفك أمام محلّه للتذوّق، وهو يزن لك نصف كيلو. ساخنة قليلًا، إضافة إلى أنّها ألذّ من طعمها في البيت. الإيمانُ الذي يرفعُ مستوى تدفق التستسترون وهرمونات الحبّ في الدم بعد الخروج من المسجد. الفتياتُ يصرن أجمل وأشهى لأسبابٍ مجهولة. يحلو الحبّ والمُصاحبة ومواعيد الغرام الأولى والقُبل في رمضان أكثر من باقي الشهور، لأسبابٍ مجهولةٍ أيضًا. ربّما فقط بسبب الحمص والكرفس. إلا أنّها حقًا عواطف ما ورائية وليست حيوانية وشهوانية. عواطف ممتزجة بالإيمانِ والطهرانية والصفاء في النظرِ إلى عيونِ الفتياتِ القانتات اللائي يلهبُ الخشوع مشاعرهن أكثر من الرقص. كما لو أنّكما فقيه وفقيهة تتقدّمان في عتمةِ المساء الضاج بالمارة، والبهجة، والباعة، والألوان، وعربات عصير البرتقال.. ممسكًا بيدها، ليجودَ كلّ ذلك بقبلةٍ خلف سورٍ أو حضنٍ، استعدادًا لقيام الليل حتى السحور. الفتاةُ نفسها التي تقابلها بالصدفةِ صباحًا، فهي بنت حيّك، أو بنت مدرستك دون شك، تحني أنت رأسك إفراطًا في الجديّة، وفي احترامِ رمضان بينما تمرّغك هي في وساوسِ عينين صائمتين أجمل مما لو كانا بكحلٍ. عينان تبرقان وتبتسمان كما لو أنّهما مُفطرتان. البنات أجرأ من الأولاد في رمضان ساعات الصيام، وهذا أيضًا لا يعلم سببه إلا الله، ولا نستطيع تأويله إلى حمص وكرفس. كما الصلاة والإطالة في التراويح وتجريب الجلابيب، الحبّ أيضًا بتلك اللذّة الإيمانية، ومواعيد العشق المسروقة بين الدروب المُضاءة باللمبات، وعند ناصيةِ المدينة كما لو أنّها أيضًا مواعيد مع الله. النكاتُ ولعبُ الورق والمقاهي والسهر والسمر ومشاهدة المسلسلات، وأخيرًا النفّار (المسحراتي) والسحور. الأمّ بكلًّ فتنتها، وبهائها، ونشاطها كنحلةٍ تأتي بالبغرير المعسّل والمسمّن (طعام مغربي)، والسفوف وما لذّ وطاب من العصائر، بينما يبدو منظر الأب غريبًا، وهو يزدردُ الأكلَ بعينينِ شبه مُغمضتين، ويتثاءبُ مضطجعًا ومُلتحفًا بالبطانياتِ كمريضٍ. وجبة عند الفجر يا له من عبثٍ لذيذ، بينما الصباح مقفر ومُضاء بقوّةٍ بشمسٍ لائكية والدكاكين مغلقة كما لو أنّها حالة طوارئ والمارة صامتون. وحدها عصافير الدوري لا تفهم معنى الصيام، وهي تنقرُ الفُتات وقشور الزريعة أمام المارة غير مراعية احترام مشاعرهم.
لا أفهم أبدًا ما علاقة الفوازير برمضان، ولا لماذا يختارون دائمًا راقصات مُفرطات في الإغراء
تخطو في اتجاهِ المدرسة كالمُسرنم وأنت لا تفكّر سوى في الأكل: أشعرُ بالجوعِ، لا أشعر بالجوع، رأسي تُؤلمني. لست جائعًا لكن هذه الحرارة جعلتْ ريقي يجف، كان يجب ألا أتسحر، كان يجب أن أشرب ماءً كثيرًا، التمر أفضل في السحور لأنّ سكريّاته لا تُهضم بسرعة، كم الساعة الآن؟ كم بقي على أذان المغرب؟.. إلخ.
منتصف النهار تبدأ بطني بالغرغرة. نلعبُ الورقَ داخل القسم، ولعبة فواكه وخضار، ولعبة الأحكام، وأنتبه إلى أنّ البنات أجمل مما هنّ عليه في الشهور الأخرى، أنتبه إلى أصابعهن، إلى ثيابهن، إلى لمعانِ عيونهن، إلى التشققاتِ على شفاههن، إلى أزرارِ وزراتهن، إلى أقلامهن، ومقلّماتهن، وإلى كلّ شيءٍ. لا أفعل ذلك عمدًا، بل يحدث هكذا وحده بفعل الجوع الذي يدفع ذهني إلى حالاتٍ غريبة من التصوّف. أشتهيهن بشدّةٍ وبإحساسٍ روحاني غامض بالفراغ وباتضاحِ الفضاء ووضوح النقوش على الطاولاتِ والخطوط بين بلاطاتِ ساحة المدرسة.
الرابعة عصرًا، أضطجعُ على السداري وأشاهد برامج الطبخ، بينما طنجرة الضغط تصفّر، وأمّي تُعدّ أطباقًا كثيرة، دون أن أستطيع أن أفهمَ كيف تستطيع المواظبة على فعل ذلك كلّ يوم بنفس الهمّة والجديّة. أنظر إلى الأكل في التلفزيون، وألاحظ أنّه مختلف جدًّا عن الأكلِ في مطبخنا. أمّي لا تحتاجُ كلّ ذلك، ولا تستعملُ كلّ تلك الأسماء الغريبة، ولا تؤمن بشيءٍ اسمه ورقة سيدنا موسى أو الباشاميل أو الجمبري. يسيلُ لعابي. أبحثُ عن الفوازير. نيللي ترقصُ وتتأوّه بفخذٍ بض، نصف مكشوف. أنا صائم طبعًا إلا أنّ الغرائز لا تفهم ذلك، كما لو أنّها كافرة ومستقلّة عنّي. لكن النظر إلى نيلي ترقص، لا معنى له في كلّ الأحوال دون إحساسٍ بتوتّرٍ خفيف. لا أفهم أبدًا ما علاقة الفوازير برمضان، ولا لماذا يختارون دائمًا راقصات مُفرطات في الإغراء. المغزى من ذلك لا يعلمه إلّا الله أيضًا. أنهضُ وأخرجُ حتى لا أفسد صومي. أقصد "السويقة" بدافعٍ مُبهم، أحدّق في الخضار والفواكه واللحوم والأسماك والزيتون والحامض، فيتحلّب ريقي. أهربُ من الأكلِ هنا فأجده هناك، وحين أهربُ إلى خلاءٍ أجده في خيالي. الحركة دؤوبة، والزحام على أشدّه، والضجيجُ ينشطُ أكثر ويتكاثر كاللبلاب. لا بدّ لكلّ هذا من عراكٍ هنا وهناك، يكون كافيًا لإلهاءِ الصائمين ربع ساعة عن التفكيرِ في الأكل والجوع. في الأيّام العادية، لا أفكر أبدًا في الأكل، ولا في أشياء مُعيبة، يحدث كلّ شيءٍ بشكلٍ طبيعي. بينما في رمضان، وطيلة اليوم تقريبًا لا أفكر سوى فيهما، على العكس تمامًا مما هو مطلوب. تصومُ البطن ويصومُ الفرج بينما الذهن يفطر. لكن كلّ ذلك يحدث في الخلفية فقط، وبغطاءٍ لذيذٍ من الإيمان والإدمان على الصلاةِ والسؤال عن مواقيتها والبحثِ عن ورقةِ المواقيت والسجود والركوع والأدعية وزيارة المسجد وقيام الليل وانتظار الملاك ليلة السابع والعشرين.
النهارُ طويلٌ ولا نهائي كسنواتِ الجفاف، بينما الليل قصير ككذبةِ إبريل
الزمنُ أيضًا لا يصير ذا معنى إلّا في رمضان. تحسب الدقائق والساعات والأيّام، ليس بتكتكاتِ عقارب الساعة فقط، بل بأعصابك أيضًا. يصيرُ الزمنُ صخرةً تحملها على ظهرك نهارًا، بينما تستريحُ منها ليلًا، بالتالي النهارُ طويلٌ ولا نهائي كسنواتِ الجفاف، بينما الليل قصير ككذبةِ إبريل. إنّه أجمل الشهور دون شك. سيّدنا رمضان كما تسميّه أمي. تيريرا تيريرا.. هذا عام الحريرة. أنشدتُ، وأنا أجوبُ الحيّ بنصفِ قربةٍ برتقالية تتوسّطها شمعة مشتعلة، ونمتُ في الشارعِ الفارغ بعد الأذان مباشرة مُمدّدًا يديّ كالمسيح، فشممت رائحة إسفلت معجونة بلذّةٍ وبخوفٍ من المجهول، وبخطورةٍ وبعاطفةٍ ما ورائية غريبة..
كان كلّ هذا في طفولتي ومراهقتي. أمّا بعد ذلك، فقد أصبح رمضان بالنسبة إليّ كغيره من الشهور، إلا أنّي أحسب دقائقه وساعاته وأيّامه أكثر مما يحسبها الصائمون. كما يحسب مسجون أيامه بالمقلوب داخل زنزانته بمسحِ خطٍّ كلّ يوم. ثمّ يأتي العيد. أستيقظُ باكرًا وأقصد المقهى، أطلب قهوة، أشعل سيجارةً وأتفرّج على المارة بجلابياتهم، وأحذيتهم، وطرابيشهم، وقفاطينهم، عائدين من المسجد أو ذاهبين إلى زياراتٍ عائلية. أحاول أنا أيضًا الشعور ببعضِ الفرح والاحتفال، فأعجزُ عن ذلك.
من الصعب جدًّا على السجين مشاركة سجانيه أعيادهم مهما كانوا لطفاء.