سنوات من البحث عن "يوم طبيعي"
سنوات من البحث عن "يوم طبيعي"، وأنا أجهل ما "المعايير الطبيعية" التي أبحث عنها أنا، وأبناء جيلي من الشباب اللبناني. أجلس اليوم لأستعيد أبرز المراحل التي مررنا فيها طوال السنوات الماضية. لا أدري من أين أبدأ. لا أتذكر العديد من الخيبات التي أصابتني بسبب كثرتها. والأهم، لا أتخيل كم كنت بريئاً وأنا "أهندس" مستقبلي. على ماذا استندت وأنا أخطط لـ"أجمل أيام عمري؟".
بطبيعة الحال، أتعايش اليوم مع الإحباط هذا كله بسبب العدوان الإسرائيلي المتصاعد على لبنان. على الرغم من ذلك، أعتقد أنني كنت بحاجة هذه الأيام البشعة، لأتصالح قليلاً مع نفسي، وأتقبل إحباطي، بعيداً عن حالة النكران التي عشت بكنفها لفترة طويلة. انتفاضة 17 تشرين ونتائجها المحبطة، وتفجير مرفأ بيروت، والأزمة الاقتصادية، وكورونا، وغياب الأمن والحد الأدنى من مقومات الحياة، والحرب على غزة ولبنان التي يبدو أنها ستطول… هي عينة من "العناوين العريضة" التي أُجبرنا على التعايش معها في أيام شبابنا، والتي توهّمنا أنها ستكون الأجمل طوال مرحلتَي الطفولة والمراهقة.
أستغرب من نفسي وأنا أستعيد سنواتي الماضية. نسيت، أو تناسيت بسبب الإنكار، العديد من المراحل المفصلية الأساسية، على الصعيد الشخصي تحديداً. لكنني لم أنسَ العديد من الوجوه والملامح، كصورة الطفل الفلسطيني يوسف الذي قتله الاحتلال، وبكاء أحد المسنّين أمام أعيني وهو ينتظر تسلّم جزء من وديعته لتلقي العلاج، بعد أن سلبتها مافيا المصارف اللبنانية، أو شارع الجميزة في اليوم التالي من تفجير 4 أغسطس/ آب… ولن أنسى دموعي أنا وصديقي ونحن نرثي بلدات "لبناننا"، مع تصاعد العدوان الإسرائيلي في النصف الثاني من سبتمبر/أيلول الماضي.
لا أدري ماذا أريد وسط السوداوية هذه، التأقلم مع الواقع الجديد؟ أم العودة لبلدي سعياً لأساعد بشيء لا أعلم ما هو؟ أو التسليم للأمر الواقع و"عيش كل يوم بيومه"؟
أشعر وكأنه لا قيمة لتجارب أساسية عشتها ومررت فيها، كتخرجي من الثانوية العامة والجامعة، ودخولي مجال العمل، وتحقيق النجاحات، أمام كل ما حدث ويحدث. ما من حقنا أن نفرح بشيء، إذ باتت نجاتنا تمثّل النجاح الأكبر والأصعب. أذكّر والدي بما ردّده مراراً على مسمعي طوال فترة مراهقتي: "أنتم جيل مدلّع، لماذا تتذمر؟ يتوفر لكم كل شيء، ولا يعجبكم". ترتسم ابتسامة خجولة على وجهه، يحرّك رأسه من دون أن يعترف بعدم دقة تعبيره. هو أدرك أنّ ما نعيشه من فظاعة يوازي بشاعة الحرب الأهلية التي ولدوا وكبروا خلالها.
من بين خيباتي الأساسية مؤخراً، التي لم أتمكّن من تجاوزها، أو إنكارها على الأقل، ظنّي أن هجرة لبنان ستمنحني "يوماً أو أياماً طبيعية"، حلمت بها لسنوات. قبل سنة تقريباً، بدأت أسعى جاهداً لمغادرة البلد، إلى أي مكان، بالتزامن مع دخول لبنان الحرب، وغياب مؤشرات أي حلحلة قريبة. هذا بالفعل ما حصل، وها أنا اليوم أمضي شهري الثالث في بلدٍ جديد، يعيش أهله وسكانه "أياماً طبيعية"، لم أجد لنفسي مكاناً فيها. منذ وصولي، وأنا أراقب إشعارات هاتفي، يزداد تشاؤمي مع كل خبر، وأختبر يومياً مستويات قياسية من القلق.
لا أدري ماذا أريد وسط السوداوية هذه، التأقلم مع الواقع الجديد؟ أم العودة لبلدي سعياً لأساعد بشيء لا أعلم ما هو؟ أو التسليم للأمر الواقع و"عيش كل يوم بيومه"؟.
لن ألجأ إلى تعبير "لعنة الجغرافيا" التي تحكم دولنا، والذي استخدمته فئة كبيرة من الصحافيين والأدباء والكتّاب في توصيف واقعهم ضمن بلاد الشام وغيرها من البلاد المشؤومة. لكن ما يمكنني قوله، إنني أنا، وأبناء جيلي، نبحث عن حياة طبيعية فقط، نسينا ما هي لأيام وشهور وسنوات طويلة، لنعدد "مكونات ومطالب" الحياة هذه.