شيء من الرضى… كثير من التهكم
في أكثر من مناسبة خشيت أن أتعثر بأذيال الحقيقة، أن أطأ عتبة الحلم وأُبهت به إذ يتحوّل إلى كابوس. في عالم المادة الديستوبي، لا يعود الألم إلى جحره، لا يعود البؤس إلى عقر داره، ولا يتسنى لمن يسكنه الحقد وتشتعل في أعماق روحه نيران الغضب أن يبحر في خيالات العقل وعوالمه المستحيلة.
اليوم أنا فراشة، أنا طفل يؤمن بالمعجزات، أنا شجرة مُعَمِّرَة تضمن توازن معادلة الأوكسجين، أنا حرب لم تُرفع فيها أسلحة العدو. اليوم فقط سوف نوقع معاهدة تحفظ لنا حقنا الطبيعي في النسيان أو التناسي، في أن نعيش في ظلال حبور لا ينتمي لكوكبنا، يشبه نشوة الأحرار؛ حتى ونحن محكومون بسطوة الأقدار والأهواء.
تتملكني أحياناً رغبة ملحة في الكذب، في تزوير الحقائق وفبركة التاريخ، في خلق حصن منيع من الأوهام، تضيع رغبتي المكتومة في كومة من الأحلام الممنوعة التي نسيت دفنها تحت تربة النسيان الدافئة، فإذا بصقيع الشتاء يدفنها عوضاً عني، ولكنني اليوم قد ولدت من جديد. صحيح أنني أعيش في عالم يلفظ أنفاسه الأخيرة، ولكن في وسع كلّ هذه الكوابيس والفواجع أن تنتظر.
اليوم أنتزع حقي في السعادة من لُب أحزان الكون، هي أربع وعشرون ساعة من الزمن فحسب، ولكنها في نظر إنسان قنوع هي حياة بأكملها. اليوم بوسعي أن أتقمّص هوية سندريلا أو الأميرة النائمة، أن أحلم بأمير يعتقني بنصف قبلة وكلمات حب مبتذلة، أو بشاعر يخلّد وجودي في أشعاره ويتغنّى بصفات لست أملكها، يقارنني بنور الشمس وحقول زهر الياسمين.
اليوم فحسب سأطرد شبح الموت من سريري وأغفو في حضن جرعة مفرطة من الأمل دون أن أخشى عواقب أفعالي، فاليوم لا يشبه الأيام الأخرى في شيء. باستطاعتي أيضاً أن أكون طاغية من طغاة التاريخ، ولكنني أفضّل بطولة قومية على فتوحات وهمية ونصر سياسي غير مستحق. اليوم أنا صلاح الدين الأيوبي، أحرّر القدس وأهب مفاتيح الأرض لأصحابها، أشهر سيفي في وجه المحتل دون تردّد. سأصلح في أربع وعشرين ساعة ما أفسدته عقود من التآمر والخذلان والخضوع. لا حدود لتوقعاتي في هذا اليوم السعيد.
شوارعنا مرايا تعكس حقيقة دواخلنا، فلماذا نخجل من المنظر العام لأحيائنا ولا نخجل من أنفسنا؟
سأتقاسم بهجتي مع من لا يملكون شيئًا في هذه الحياة، مع من عاشوا دهرًا كاملا على هامش الأحداث الرئيسية، مع التائهين في متاهات الحقيقة وهم لا يعرفون أنهم جزء أساسي من ضالة ينقبون عنها. سأحتضن قصصهم المؤلمة وأعلّقها على واجهة الصحف الإخبارية، سأواسي جراحهم وأصبّ كامل اهتمامي تجاهها، وسأشعر حينها بأنّ في مواساتي لهم معانقة لروحي المتعبة. معًا سنسطر مجدًا لا عهد للتاريخ به.
حتى وأنا أمشي بين أزقة مدينتنا الفاسدة، يبدو عدم الاكتراث واضحًا في ملامحي. لا يهمني أنّ العدالة أعدمت في شوارعنا الضالة، أو أن الجوع والبرد معًا قد أزهقا أرواحًا أكثر مما فعلت الأوبئة والحروب. لا يهمني أننا تجرّدنا من إنسانيتنا أو أنّ الوضع البشري قد تقهقر إلى ما كان عليه في بداية الخلق. اليوم فقط من حقي أن أكون أنانية. دروب مدينتنا مظلمة، شوارعنا مرايا تعكس حقيقة دواخلنا، فلماذا نخجل من المنظر العام لأحيائنا ولا نخجل من أنفسنا؟
وأنا في طريقي إلى حتفي المحتوم، تذكرت أن أصطحب معي نصف ابتسامة لكي أقابل قدري بشيء من الرضى وكثير من التهكم. سأفاجئ الموت بطمأنينة بطولية، سأواجه الفناء ببسالة امرأة ذات وجود سرمدي. بعد أن تنقضي مهلتي القصيرة، سأكون قد عشت أكثر من مرة، ولن أموت سوى مرة واحدة.