صحافة "مفعول بها" في المغرب
تكون الصحافة صحافةً أو لا تكون. الصحافة ليست حالة وسط، أو وضعية مساومة، أو أنصاف رأي، أو نصف حرية... هي حرية كاملة غير منقوصة، أو حالة "نضالية" لأجل الحرية عند انتفائها، أو تكون شيئاً آخر.
تكون الصحافة أو لا تكون، وقد لا تكون هناك صحافةٌ في وطنٍ يمشي على استحياء نحو الديمقراطية، ويكون هناك صحافيون مهنيون، لكن ليس في وسعهم الكلام أو الكتابة من بناتِ أفكارهم بحرية، أو حتى التّنفس دون "أمرٍ صباحي ومسائي". وإلا تكن صحافةً عاقّة تحتاج إلى تأديب و"تنظيم".
هذا التبخيس والتخسيس و"إفقاد الوزن"، الذي يكاد ينسحب على امتداد سنوات، خيارٌ ويجسّد رؤية لما يجب أن تكون عليه الصحافة في المغرب، وليس عنوانَ تردٍّ طارئ في مهنة، فعلاً وحقيقة، هي مهنة متاعب حين تتلازم مع النزاهة.
ما يجري من نقاش حول المجلس الوطني للصحافة في المغرب هو "باكورة" السقوط المريع منذ سنوات طويلة. ليس حدثاً معزولاً عن سياق، ولا أزمة طارئة، ولا خصامَ أفراد. هو عنوان مرحلة، ونتاج سيرورة لأجل تسْييد من لا يستحقون السيادة.
لقد صار معنى أن تكون صحافياً في المغرب باهتاً بلا مضمون، ولا يضمن لك شيئاً وقد سقطت الكثير من الأوهام عن القيمة الاعتبارية بعدما داسها كثير من ممارسي الإعلام. لقد صارت صفةُ صحافي عبئاً، ولربما مجْلبةً للخجل. مهنة يمكن أن يدخلها أي أحد، وأن يمارسها أي أحد، وأن يمثّلها أي أحد، وأن يمثّل بجثتها أي أحد، وينظّمها الجميع وأيُّ أحد، إلا الصحافيين، فيما يسمّى كذبة "التنظيم الذاتي" بصيغتها المُمَغْربة.
جميعهم شاركوا في الإساءة بمستويات، ولا حقّ لمن صمت دَهْراً أن ينطق "زُعماً" أنه يريد الإصلاح
قبل سنوات أُطلقت تجربة تأسيس المجلس الوطني للصحافة، على قاعدة التنظيم الذاتي، لكن المحصلةَ الفاقع لوْنها، أننا لسنا أمام وضعية تنظيم ذاتي. نحن أمام واقع تنظيم الجميع وتدخل الجميع واستباحة الجميع لمهنة الصحافة، إلا الصحافيين، وقتما تتمتع مهن أخرى بتنظيم ذاتي لا بكذبة.
وهذا الهوس بإقحام الجميع أنفه في تنظيم الصحافة، ابتداءً من الحكومة إلى ما لا نهاية من المتدخلين، رسميين وغير رسميين، يمكن أن يكون مقبولاً على سبيل الدعم والإسناد والمصاحبة في تطوّر التأسيس للتجربة الجديدة، باعتبار الصحافة شأناً مجتمعياً. لكنه بصيغته الحالية، وكثافة حضور وتدخل غير المنشغلين والمشتغلين بالإعلام، ناشرين أو صحافيين، بما في ذلك التدخل الحكومي عبر التمديد للمجلس الحالي، ومن ثم التوجه لتنصيب لجنة مؤقتة تقوم مقام المجلس "المُنتخب"، لا أعتقد أنه يجد تفسيره إلا في أحد أمرين، أو هما معاً: أن الصحافيين، في نظر مهندسي هذه التغريبات، قاصرون عن تنظيم شؤونهم إلى الحدّ الذي يحتاجون إلى الإشراف الخارجي و"الرُّفقة" ومن يأخذ بيدهم في الطريق، أو أنها عملية ضبط و"ربط" يتورّط فيها الكل، بغرض مزيد من الإضعاف والتشتيت، لغاية "الضبط" كما هوسُ كلّ سلطة.
نحن أمام واقع تنظيم الجميع وتدخل الجميع واستباحة الجميع لمهنة الصحافة
ومع ذلك، وبعدما تدخل الكلّ في تنظيم هذه الصحافة المغبونة في المغرب، ولا "أحد" كلّف نفسه الانحياز وقتما يكون للانحياز قيمة حين الانتصار لحرية الصحافة وقت التضييق عليها، من حقي أن أسأل بعد سنوات من إطلاق هذه التجربة: "هل تمكّن هذا الجميع المتدخّل، والمسرف في التدخل، والذي يريد أن ينظّم الصحافة وفق المثل المغربي (يدِّي ويْدْ القابلة والحرامي يخرج عْور)، من تنظيمها؟".
لقد صار المجلس الوطني عبئاً على الصحافيين، وحتى على "الدولة"، وعلى أهل السماء والأرض، ومن كثرة ما (خْرج عْور)، يريد هذا الجميع (اللي دار يديه مع يدْ القابلة/ المولّدة) دفنه في التراب. (يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ ۚ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ).
دع عنك ادعاء المدّعين الذين يزعمون أنهم يريدون خدمة المهنة أو أنهم خدموا المهنة. جميعهم شاركوا في الإساءة بمستويات، ولا حقّ لمن صمت دَهْراً أن ينطق "زعْماً" أنه ما يريد إلا الإصلاح.
من ساهم في الهبوط بالممارسة الصحافية من خلال مؤسساته ومنصاته الإعلامية، ومارس الفضائحية والتشهير ونزل بالذوق العام، ولهث وراء المشاهدات على حساب المِهنية، لا يمكن أن يتصدّر الآن دعاوى الإنقاذ، كذلك ليس من حقّ من تواطأ ومشى في جنازة الصحافة و(كْلا مع الذيب) أن يبكي مع السارح (أو لعلنا المسروح). المثل المغربي يقول: (ياكل/ يأكل مع الذئب ويبكي مع السارح/ الراعي).
هي معركة مصالح، وامتيازات، ونفسٍ أمّارة بالسوء استطابت الأكل من المال العام
ثم على ماذا نأسف وقد ضمّ المجلس (المُطال في عمره عبر دَوْس القانون) ممثلي كلّ القطاعات، وحتى الهيئات التي ما عاد لها "وجود" ولا تستطيع تنظيم نفسها، ورغم ذلك تتجرّأ وتريد أن تساهم في تنظيمنا، كاتحاد كتّاب المغرب، كذلك ضمّ من سبق له أن دان صحافيين في قضايا نشر في المحاكم.
هذا المجلس، منتهي الصلاحية قانوناً وواقعاً، غير مأسوف عليه، ممدّداً له، أو لجنةً موقتة، أو حتى محلولاً أو متحلّلاً.
وعلى ذكر المجلس "المحْلول"، ألا يستحق هذا المجلس، المنقضية ولايته بالأصفار، لجنة تقصي حقائق "صرف"، وحتى "تحويل". (أقصد بالصرف هنا أوجه صرف الميزانية، وبالتحويل نقل الملفات للقضاء إذا اشتُبه في وجود فساد عند الصرف).
رأيي أنه مجلس بحصيلة هزيلة، ولا خلاف بشأن ذلك لدى كثيرين لفرط بداهة هذا القول، لكنه أيضاً، للمفارقة، مجلس حُظوظٍ ومحظوظين، ومجلس مترفين، ومجلس ريع... ولأجل ذلك، لربما، يتنافس المتنافسون من المستعدين لليّ عنق القانون ليُساير هواهم.
جزء من معركة كسر العظم الجارية لا علاقة له بالصحافة ولا بالصحافيين في المغرب، على ما أزعم. هي معركة مصالح، وامتيازات، ونفسٍ أمّارة بالسوء استطابت الأكل من المال العام (لا حلالاً ولا طيباً).