عنصريون "مع سبق إصرار"
جدري القرود شائع في غربي القارة الأفريقية ووسطها تحديداً، لكنه لم يثر هلع العالم إلا حين أُصيب به "الإنسان الأبيض". لا تلتفت الإحصائيات ولا تهتم بأعداد المصابين ما داموا ببشرة سوداء، لكنّ العدّاد يشتغل بكفاءة عندما يصير المصاب غربياً.
الأفدح أن يتعامل بعض الإعلام، الغربي تحديداً، ويتبعه إعلام عربي، بتمييز عند اختيار الصور التعبيرية عن المرض، بل ويكاد يمنحه "جنسية" في نوع من الوصم.
"جمعية الصحافة الأجنبية، أفريقيا" (مقرها كينيا) قالت إنه "من المزعج استخدام وسائل الإعلام في أوروبا وأميركا الشمالية لصور من الأرشيف لأشخاص ذوي بشرة سوداء لتصوير تفشي المرض في المملكة المتحدة وأميركا الشمالية". يكفي، ففي هذا القدر كفايةً لبيانِ وجه العطب، ولا حاجة لوسائل إيضاح.
الأمر شبيه تماماً بمقتل العشرات يومياً في عمليات إرهابية في نيجيريا ومالي والصومال وغيرها، لكنها لا تجد حيزاً في نشرات الأخبار وتقارير الصحف والمواقع، لكن جرح شخص واحد خلال عملية طعن، ولو في جريمة جنائية، في أي ضاحية على هامش مدينة غربية، خبرٌ يستحق تلقائياً أن يكون عاجلاً بأحمر فاقع، ثم استفاضة بلا نهاية في التحليل والتنديد إن كان بـ"دوافع عنصرية أو دينية".
أما إن كان المجرم يحمل اسماً عربياً فأكيد هي "عملية إرهابية"، وإن كان يحمل اسماً غربياً فحريٌ أن يتريث العالم للكشف عن حالته النفسية، وغالباً سيُعتبر "مضطرباً"، لكن ليس "إرهابياً". الإرهاب "علامة مسجّلة".
وعندي، القتل قتلٌ، والهمجية همجية، والوحشية وحشية، أيّاً كان مُقترفها، وأيّاً كان ضحيتها. بديهيات؟
تماماً أيضاً كمقتل صحافيين في أوكرانيا بنيران روسية يستحق تنديداً واسعاً وملاحقة للمجرم وتشهيراً (وهو فعلاً يستحق وأكثر)، بل ويسمح "فيسبوك"، من خلال إعلان رسمي لا لبس فيه، رآه البعض "تجرّداً سافراً من كل القيم"، أن يكون منصة للعنف والتحريض وهو يقبل "مؤقتاً بأشكال من التعبير السياسي تنتهك في العادة قواعدنا المتعلقة بالخطاب العنيف، مثل الموت للغزاة الروس".
كذلك نحن، تلقائياً و"عفوياً"، نطبّع مع هذا التمييز والعنصرية. ويكاد يكون عندنا بعض الإنسان أفضل من بعض
لكن هذا العالم نفسه يصير "متعقّلاً" وينتقي عباراته بعناية عند توصيف جريمة اغتيال شيرين أبو عاقلة، ويصوّرها (انحرافاً بالقدّيسة المسماة موضوعية) نتيجة اشتباك بين "مسلحين" (تعويم على طريقة بقعة الزيت)، وليس اغتيالا نفذته "قوات نظامية" (قوات جيش الاحتلال) في حق صحافية ضمن عملية ترهيب جماعي.
و"فيسبوك" نفسه يصير "حسّاساً" عندما يكون الضحية فلسطينياً يعوم في دمائه برصاص الاحتلال، فيقرر حجب المحتوى، لأنه لا يريد أن "يزعج" العالم بـ"صور مؤذية" (القتل لا يؤذي، لكن صور القتيل وحدها مؤذية!!!)، ولا يريد كذلك أن يخدش طمأنينة الإنسان "المرفّه المشغول" بصوت نحيب أم الشهيد، فينوب عنه عملاق "التواصل الاجتماعي" (التواصل الاجتماعي؟) في تحديد ما يجب أن يراه وما لا يجب. بل ويزعجه أن يوصف الاحتلال بالاحتلال، والمجرم بإجرامه، ويحجب المحتوى بناء على "سياسة خاصة"، تقبل (مؤقتاً عبر انتهاك للقواعد) "بعضَ العنف" وتحرّض عليه، لكنها تتستّر جهاراً نهاراً على عنف آخر، إن كان إسرائيلياً تحديداً.
الأمر نفسه يحدث عندما تبلغ "صلابة الوجه" (في المغرب نسميها "قصوحية الوجه" دلالة على عدم الاستحياء) مداها حين يخرج جورج بوش الابن قبل أيام ليلقي الدروس في الأخلاقية السياسية، وليهاجم روسيا بسبب حربها على أوكرانيا، ويندد بالتدمير والقتل والوحشية (ومعه حقّ في هذه الإدانة)، لكن لا يرفّ له جفن ولا يُؤنّبه ضمير وهو من أمر، حين كان رئيساً للولايات المتحدة، بتدمير حضارة بلاد الرافدين وكل العراق بناء على مزاعم امتلاك السلاح النووي. وكأن في أوكرانيا بشراً وحضارة، والعراق أصفارٌ على الشمال.
ورغم ذلك، اللسان سبق بوش وهو يتحدث عن الهمجية، وبدل أن ينطق أوكرانيا قال العراق، رغم أنه لا يجمع بين البلدين شيء في النطق. هو "اللاوعي" يفضحه. خزيٌ.
وفي الخزي، فلاديمير بوتين وبوش الابن سواءٌ. ولا مجال ليزايد أحدهما على الآخر في العدوان على بلد آخر، وفي الدمار والوحشية.
كذلك نحن، تلقائياً و"عفوياً"، نطبّع مع هذا التمييز والعنصرية. ويكاد يكون عندنا بعض الإنسان أفضل من بعض.