عدي التميمي... ليلة ارتقاء القمر
في ليلة 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2022 استنفرت الأقمار في القدس المحتلة؛ حين رصدت شاباً على هيئة قمر أضاعوه في زحمة أقمار البلاد، ليعلنوا على الفور الاعتكاف في المدينة المقدسة، رافضين الدوران في سماء غيرها، وقمرهم عدي على أرضها يعدو بتميم صفاته وكنيته، تاركاً رفاقه الأقمار يحلّقون في السماء على موعد اللقاء في عيده الثالث والعشرين، فيما رسائله تتوارد عليهم "يا رفاق انتظروني لأيام، لا تستعجلوا صعودي، أنا قادم، لكن ثأركم يستوقفني، فما زال في جعبتي بضع طلقات، سأسدّد رميها في صدر عدوّنا وأصعد".
حينها، أراد الشهيد عدي التميمي الصعود إليهم، لكن قوة إلهية أرادت له أن ينسحب بسلام ليقتصّ من هذا العدو في دقائق، وما أعظمها من دقائق، صنع خلالها مشهداً؛ ما زلت حتى اللحظة أختلس النظر إليه، ولا أريد له أن ينتهي فكلّ لقطة فيه تبعثُ بأمل ما، وتنذر بنصر قادم، وكلّ صوت رصاص يدوي به يوقظني من عزلة مقيتة، سعيتُ إليها بكل ما أوتيت من قوة، ثم يعود ليلعن عجزي أمام عدي التميمي، وهو يترجل في ليلة الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول في مشهد لم يكُن درامياً فحسب، فالبطل هنا لا تعنيه أسس سيميولوجيا العمل الدرامي والمسرحي، ولا النص الأدبي ودلالاته ومكوناته، فقد مضى ليضع الأسس التي يريدها، وهو يحيّد كلّ النصوص ليرفع قطعته الثابتة في العمل ألّا وهي فلسطين.
ولم ينتهِ المشهد في لقطته الأخيرة نهاية تراجيدية يسقط فيها البطل، بل سقط العدو وعدا العدي تاركاً خلفه جثة مجندة صهيونية، وجراحاً في أجساد بني صهيون. وبسلام عاد إلى مخيمه شعفاط، حيث كانت الحجارة قبل البشر بانتظار تقبيل جبينه الطاهر، ليبعث المحتل الصهيوني بترسانته العسكرية إلى المخيم، ويطلق جنوده، كما حشراته التي تنخر الأجساد، لكنها لم تتمكن من لدغهم بسمّها؛ لأنّ بين أزقة مخيم شعفاط رجالاً لا يهانون، أصدروا قرارهم بأن يُصبحوا جميعهم عدي، فلا اسم هنا يُنطق في سماء وأرض سوى عدي، ولا مراسلة واتصال يخلو من عدي، حتى لو كانت مكالمة هاتفية بين عاشقين، فالمحبوب عدي والمحبوبة عدي. والأمر الذي أذهل الاحتلال أكثر، وضاعف من ضلاله، تمثّل بقرار أهالي المخيم أن يظهروا حليقي الرؤوس، فما إن نشر المحتل صور العدي حتى بات مخيم شعفاط كله حليق الرأس.
مضى عدي التميمي ليضع الأسس التي يريدها، وهو يحيّد كلّ النصوص ليرفع قطعته الثابتة في العمل ألّا وهي فلسطين
وفي تلك الأثناء، كان البطل يمضي في ليالٍ أراد أن يختم بها عقده الثاني على الأرض لينتقل إلى الحياة بمعية رفاقه الذين ما تركوه وهو يُطارد العدو؛ فنور أولئك الأقمار كان يسطع أكثر وأكثر في كلّ بقعة يضيق بها الضوء، وحتى لا يلفتوا انتباه العدو كان النور يضيء سراً بقلب عدي فقط، ويُعبّد له الطريق حتى طلّ علينا ليلة التاسع عشر من أكتوبر/ تشرين الأول، وسلاحه الذي عشقناه يزأر ليحرّر مغتصبة "معاليه أدوميم" من رجس بني صهيون، ليقلب المعادلة على الظالم شرقي قدسنا، وسلاحه يكتب بيان نصر قرّر العدي له أن يُذاع وهو يدمر منظومة أمن واستخبارات الاحتلال، ويُعرّي ضعفه، والجنود منبطحين أمامه ورصاصهم يصيب جسده ولا يخترقه، وكأنه يترجم ما خطه عام 2019 على مسرح الانتصار "رجولة السلاح تنتهي بانتهاء مخازن الذخيرة، أما رجولة القلب لا تنتهي إلّا إذا توقف قلبك". وفعلاً، ليلتها كان يعود ويحيا ليُطلق جنود العدو الرصاصة التي تليها فيتلقاها، ويضربهم برصاصاته ويغرقهم بالجراح، وكأنه يعدو محلقاً في العنان، ومن حوله يعلو صوت فنان المقاومة، علي العطار، وهو ينشد كلمات هي الأبلغ لوصف المشهد "لن تنالوا من رجال حطموا كل القلاع... لو علمنا أننا نُقتل ثم نُحرق ثم نُذرى ثم نحيا ثم نُقتل ثم نُحرق ثم نُذرى ثم نحيا ثم نُقتل لو أعيدت ألف مرة، نحن درب الحق نتبع، ما تركنا النهج فاسمع ليس منّا من سيركع...".
ليكتمل المشهد الأخير بلقطة لجندي صهيوني جبان خشي أن يقترب من عدي، وكان يظنه يعدو نحوه، وهو يقترب شيئاً فشيئاً من سلاحه ليختطفه ثم يتوّجه نحوه، وهو يرتعش ليتأكد أنّ عشرات الرصاصات التي أطلقوها صوبه فلحت في قتله، لكن الجبناء لم يعلموا أنّ عدي لم يُقتل؛ بل أراد الارتقاء شهيداً ليعجل موعد لقاء رفاقه الأقمار المعتكفين في سماء القدس فهم يريدونه أن يصعد معهم إلى السماء بعدما أعدّوا له العشاء.
بين أزقة مخيم شعفاط رجال لا يُهانون، أصدروا قرارهم بأن يُصبحوا جميعهم عدي التميمي
وفي الأرض كانت فلسطين كلها عدي، الإضراب عمّ البلاد، والمآذن تصدح وتبكيه، والنساء والرجال، وأمه توّزع حلوان استشهاده، وكتّاب ورسامو الكاريكاتير يطلقون أقلامهم وريشاتهم لتخطّ وجه البطل عدي الوسيم وعضلاته المفتولة وابتسامته الجبارة، وهو يترجل ببسالة نحو الجبان الصهيوني، ووصيته تُذاع في العالم لتخلق ألف عدي يعدو على الأرض بعدما صعد العدي إلى الجنان، وهو يقول "أنا المطارد عدي التميمي من مخيم الشهداء شعفاط، عمليتي في حاجز شعفاط كانت نقطة في بحر النضال الهادر، أعلم أنني سأستشهد عاجلاً أم آجلاً، وأعلم أنني لم أحرّر فلسطين بالعملية، ولكن نفذتها، لأجل هدف أساسي أن تثمر العملية عن مئات من الشباب ليحملوا البندقية من بعدي".
العدي كان يعدو إلى وعده قبل أيام من تنفيذه العملية الأولى عند حاجز مخيم شعفاط، حين كتب "لم ولن نخشى عواقب أي شيء. الويل لمن يعتقد أننا انتهينا". وفعلاً لم ينتهِ أبطال شعفاط، فبعد ثلاثة أيام فقط ترجل الفتى محمد أبو قطيش كالأسد لينفذ عملية طعن ضد الأعداء لأجل العدي ولسان حاله يقول: لقد أصبتهم انتقاماً لك، ولن يهدأ مخيم شعفاط بعد اليوم، سيكون بركان غضب بوجه الأعادي، وسيدحرون من أرضنا؛ فالمقاومة وعرين أسودها أقسموا أن "يؤدون لك التحية العسكرية يا عدي في صدور الأعداء"، وحقاً، وفى الرجال بعهدهم كالمعتاد، واخترقت التحية العسكرية صدور بني صهيون، وصعد الأبطال إليك حيث السماء، فسلّم يا عدي على من سبقوك ولحقوك وادعوا لنا أن يمنّ اللّه علينا بيوم نؤدي لكم تلك التحية العسكرية في ذات الصدور.