عزيزي محور الكون!
منذ ظهور خطاب "التنمية البشرية" بمعناه السائل ومعالجته السطحية بدأ الإنسان يجد فيه ضالته، بالبحث عن مبرّرٍ لفشله أو إخفاقاته، ليس من أجل التطوير، وإنما التخدير، لأنه لا يريد أن يوقع اللوم على نفسه، ويهرب من الإحساس بالذنب، فيلقي بكلّ ذلك على الآخرين أو الظروف أو أيّ أحدٍ عدا نفسه، وكذلك يفعل بعض المعالجين النفسيين الذين يحتاجون هم أنفسهم إلى علاج نفسي حتى يتحرّروا من معضلة "إراحة المريض".
واليوم، ستجد المخاطبين من مشاهير السوشيال ميديا، أو مروّجي المخدرات على مواقع التواصل، وقد يكونون أحيانًا من أصحاب العلامات الزرقاء، يبيعون للناس الوهم المغلّف، في خطابٍ ساذج، يستغل احتياجهم للاطمئنان والتسكين، والتخلّص من شعور العتاب وجلد الذات، فيلهثون خلف كلّ كلمة تخبرهم بأنهم الأفضل، وأنهم لم يخطئوا حين فعلوا كذا وكذا، وأنّ الناس هم المخطئون، وأنهم "مايستاهلوش" (لا يستحقونك)، وأنك تستحق الأفضل منهم.
سيخبرك تجار الشهرة هؤلاء، المتلاعبون نفسيًّا بضحاياهم، أن تعتزل ما يؤذيك، دون أن يخبروك بأنك أحيانًا مصدر الأذى، ولا يعتزلك الآخرون لأنهم يحبونك ويصبرون عليك، سيقودونك نحو الوحدة التامة، والعزلة الموحشة، والشعور بالغدر، وأن لا أحد بجوارك، هل فرّوا؟ هل ماتوا؟ لا، وإنما أنت من اختار الاعتزال، رغم أنك لم تعرف معنى "الأذى" الحقيقيّ الذي ينبني عليه القرار.
ثم بعدها، سيتسلون عليك مجددًا، بالحديث عن الوحدة، والوحشة، وضيق العالم، وكره الناس، وعدم العثور على من يفهمك بشكل جيد، وأنّ الناس سيئون، والدنيا غدّارة، والأيام قاتلة، رغم أنّ القاتل الغادر والوحش الأكبر في هذه الدنيا يقع بين يديك، وأنت لا تراه، لأنه يخبرك، رغم سوئك أحيانًا، بأنك بخير.
القاتل الغادر والوحش الأكبر في هذه الدنيا يقع بين يديك، وأنت لا تراه، لأنه يخبرك، رغم سوئك أحياناً، بأنك بخير
والحقيقة يا صديقي، التي لا بد أن تدركها قبل فوات الأوان، أنك لستَ مركز العالم، ولا محور الكون، لا الكواكب تدور حولك، ولا الحقائق تتجلّى عندك، ولا النجوم تدور في فلكك، ولا تظهر شعاعًا أبيض للمارّين من فوق السماء، ولا يهتدي بك التائهون في الأرض، لأنك وسط 8 أشخاص، قد لا يراك الكثيرون إلا من يعرفونك ويحبونك، ووسط 800 شخص قد لا يراك أيّ أحد من كثرة الزحام، ووسط 8 آلاف شخص فلن يراك حتى الذين على بُعد مترين منك، ولا أقول وسط 8 مليارات إنسان، فما الذي تنتظره، وما الذي تتوقعه من الآخرين؟
طبيعيٌّ ألا يلتفت إليك البعض أحيانًا، أن ينسى بعض المقرّبين مناسبةً تخصّك ذات مرّة، أن يتغيّب صديق عزيز عن دعوةٍ مهمة، أن لا تجد بجوارك أحد الذين انتظرتهم طوال حياتك في يوم ما، ثم سيعود بعدها، صحيح أنّ هذه الأمور تضايقك، وقد تشعرك بأنك تعرّضت للأذى، من غياب حاضر، أو سوء ظن قريب، أو إساءة فهم، وواردٌ أن يكون ضمنهم من أذاك بالفعل، وقد تكون محقًّا في اعتزاله، أو لا تكون، فالشوك لا يقصد أن يؤذيك على كلّ حال، وإن كان البعض يتعمّد أن ينغزك بدبوس من حين لآخر، بقصد الإيذاء، فما عليك فعله قبل اعتزال ما يؤذيك، أن تعرّف "الأذى"، وتعرِف كنهه وماهيته، وتدرك المصطلح والمفهوم.
ثم عليك الاحتياط وأنت في هذا العالم السائل مما تخطوه قدماك، منتبهًا لما قد يعلق في طرف ثوبك، وما قد يتسلّل إلى جسدك، وما قد يعتري عقلك وقلبك وعينك، فهذا أولى ما يجب عليك اعتزاله، بدلًا من اعتزال ما تظنّه يؤذيك، حسب تعريف "الأذى" عند تجار عدّادات السوشيال ميديا، وأصحاب المشاهدات المزيّفة. فيا صديقي من فضلك، أذنك وعاء للمنطق، لا مكبّ للنفايات!