عن أخلاقية الإنسان المعاصر
من وجهة نظرٍ أفلاطونية، الإنسان كائن مميز بعقله، وهو أساس المسؤولية والجزاء، فهو الكائن العاقل الوحيد على هذه الأرض، ولطالما ارتبطت هذه العقلانية بعالم متخيل من المثل والأخلاق والفضائل. لكن الفلسفة الحديثة لم تقبل بهذا التعريف للإنسان، كما شككت بالتصورات الفلسفية السابقة عنه، وحتى تلك التي تتحدث بعقلانيته، فأحدثت بذلك انقلاباً شمل الأبعاد المعرفية والعقلية. الإنسان بالطبع عاقل، لكنه حقيقة الأمر عاقل بدرجة ما، وكثير من الفلسفات رجحت أن قدرات الإنسان العقلية ليست أكثر من مجرد قوى لاشعورية وغريزية، وأن الإنسان غالباً ما يعيش على شفا حفرة من التوحش والهمجية، وما شهده ويشهده العالم من حروب ليس إلا مثالاً واضحاً على السقوط المدوي للإنسانية في هذه الحفرة.
عرّف الإنسان
يتغنى الإنسان المعاصر بإنسانيته التي تميزه عن الحيوانات شركائه على هذه الأرض، فيتجاوز المعنى الوصفي لاسمه ويعطيه أبعاداً، ربما، أكثر مما يستحق، ويحمّله معاني أكبر منه، فربط إنسانيته بالمبادئ والقيم والأخلاق، حتى صارت كلمة الإنسانية ترادف الأخلاق، فمجرد كونك إنسانا نتوقع سلوكك، وبناء على إنسانيتك فقط. لكن لنتمهل قليلاً ونتساءل، هل يمتلك الإنسان إرادة أن يكون إنساناً بهذا المعنى الأخلاقي، وهل انحرافه عن هذه المبادئ يسقط إنسانيته. وهنا سنجد أنفسنا مضطرين للتساؤل، من إذاً هو الكائن الذي تسبب بقتل الملايين خلال الحربين العالميتين، والملايين بعدها وقبلها؟ ومن هو الكائن الذي يمارس في هذه اللحظات حياته بكامل اعتياديتها في حين أن عشرات الآلاف يقتلون بذرائع غبية؟ من هو الكائن الذي يصفق ويهلل للمجرمين ويرقص كالمجانين في حفلات الانتخابات؟ وسنجد أنفسنا مضطرين مرة أخرى للإجابة هذا الكائن هو الإنسان وأفعاله السابقة لن تسقط إنسانيته، لأن الإنسان بكل بساطة كائن عادي موجود على هذه الأرض، أما الإنسان بالمعنى الأخلاقي فليس أكثر من اختراع ومحاولة شاعرية قام بها البشر بهدف منح وجودهم على هذه الأرض معنى أكثر عمقاً وأكثر مسؤولية، ولكنه لم يعن قطعاً معناه.
اعتماداً على المعايير السابقة نفسها لأجعل لهذا التعريف المعنوي دلالة على المعرّف نفسه، لا على رغبتنا بما يكون عليه. لم أجد تعريفاً منصفاً للإنسان أكثر من أنه حيوان ناطق. فحتى صفة العقلانية التي أقرينا بوجودها لديه ليست حالة عامة، فكل المجتمعات ومنذ بدء التاريخ، احتاجت بطلاً يقودها، بطلا رأته المخلص، المرشد، القوي... وهذا البطل من أعفاها من التفكير والإدراك، وحمل عنها ثقل عقولها، فانصرف الجماهير لشؤونهم الخاصة، وتركوا (القادة) تتخذ القرارات، تخوض الحروب، توقع معاهدات، تبني، تهدم، وكل ما تفعله الجماعة أن تصفق وتقدم الولاء لهذا الإله الصغير على الأرض، فتتالت الآلهة، وتتالت الحروب والصراعات، ودفع البسطاء دائماً ثمن حاجتهم لإله يفرض إرادته، وهذا ما تحدث عنه غوستاف لوبون مطولاً في كتابة سيكولوجية الجماهير.
الإثبات الحقيقي لوجود الإنسان اليوم وبعد كل تلك المجازر التي حصلت، وبعد كل تلك القصص المأساوية التي وصلت للعالم، أن يكون الشعور جماعياً وليس فردياً
الكثير من البشر، من البشر فقط، والقليل من الإنسان
منذ بدء الحرب على غزة وأنا ألاحظ أن الكثيرين مازالوا يؤمنون بوجود الإنسان بالمعنى الأخلاقي للكلمة، ويعولون على قوة الإنسانية وقدرتها على التأثير، متناسين أن الجماهير تحت سيطرة القادة، ولغة الأرقام لا تقبل المواربة. الإنسان الذي نحتاجه اليوم لإحداث تغيير حقيقي في مجريات الأمور ليس موجوداً بالأعداد التي تسمح له لأن يكون قوة مؤثرة على الأرض، والتأثير الذي يحدثه لن يتجاوز حدود مشاعرنا، وهؤلاء المتظاهرون والمتعاطفون طالما ليسوا البشر جميعاً، لن يتمكنوا من إيقاف الموت الذي يحصل، ولن يخففوا من حجم الهلع الذي يصيب قلب طفل ينتظر سماع صوت صاروخ ليطمئن أنه لم يمت؟ ولن يعيدوا الأحلام التي سلبت إلى أصحابها... ببساطة شديدة، هؤلاء الناس هم الشذوذ وليسوا القاعدة، وباقي البشر يمارسون حياتهم العادية كما مارسوها قبلاً غير مكترثين بأي قتل يحدث طالما بينهم وبينه بحار ومحيطات.
يعتذر البروفيسور كميل حبيب، العميد السابق لكلية الحقوق في الجامعة اللبنانية، في تغريدة على "إكس"، من طلابه لأنه كان متشدداً في تدريس مقررات القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني ومنظمة الأمم المتحدة مقراً أن القوة هي سيدة العالم.
الإثبات الحقيقي لوجود الإنسان اليوم، وبعد كل تلك المجازر التي حصلت، وبعد كل تلك القصص المأساوية التي وصلت للعالم، أن يكون الشعور جماعياً وليس فردياً، على البشرية جمعاء أن تتعطل عن ممارسة حياتها، لإيقاف هذا الموت الذي يجعلنا جميعاً متورطين بالقتل، ويسقط أي صفة أخلاقية عن وجودنا على هذا الكوكب البائس.
لكن للأسف المراهنة اليوم على وعي الإنسان عموماً وإدراكه لما يجري حوله مراهنة خاسرة، فالإنسان كائن ليس من الصعب التلاعب به، وليس من الصعب إقناعه بحقيقة معينة وجعله يتمركز حولها ويرفض غيرها. الغرب أقنع جماهيره أن العرب عبء على حضارتهم وهم ببساطة اقتنعوا بغالبيتهم.
يقول الكاتب السوري فادي أبو ديب: "فكرة إبادة أنماط الحياة المختلفة كلياً، أو التي يرى المتحضرون أنها خطيرة على نمط حياتهم، وجدت منذ زمن طويل، وطبقت بحرفية بالغة وأشكال مختلفة حتى في أوروبا نفسها... وهنا تكمن خطورة الأمر كله: حين تصل ثقافة جماعة ما أو طبقة معينة أو أمة من الأمم إلى مرتبة التوغل الحضاري الإمبراطوري، كيف يمكن منعها من التحول إلى قوة ساحقة ترى في الإبادة طبيعة من طبائع التاريخ".
أعتقد أنه عندما نتقبل اليوم كبشر ما يحدث في فلسطين وما حدث سابقاً ويحدث في أي مكان آخر، وعندما نتمكن من اعتباره جزءاً من سياق طبيعي لحياة تمضي، رغم صرخات الأطفال وجراحهم وأجسادهم الممزقة، وعندما يصبح القتل ببساطة فعلاً لا بد منه، وعندما يخرج ناطق رسمي باسم دولة عظمى ليبرر سقوط صاروخ على مستشفى مليء بالأطفال بأنها أخطاء تحدث في فترة النزاعات وعلينا التفكير بحدوثها على أنها مرور عابر وسريع ومبتوت به وبضرورته وأهميته. علينا فعلا التوقف عن الاعتقاد بوجود الإنسان بالمعنى الأخلاقي المتخيل، وعلينا حتماً أن نعيد النظر بجدية للمثالية وللقيم الأخلاقية التي من المفترض أنها كانت جزءاً لا يتجزأ من أساسات الحضارة والنهضة الحديثة. لنعترف أن عالم الأخلاق والمثل ليس موجوداً في الحقيقة، ولن يوجد، وأن الإنسان بالمعنى الأخلاقي ليس أكثر من كائن خرافي، فطبيعة الإنسان نفسه ليست إنسانية. يقول برديايف: "أؤمن بأن الله أكثر ناسوتا من الإنسان".