عن التحول الديمقراطي في السودان
خطوة جبارة حققتها الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك بإزالة اسم السودان من القائمة الأميركية للدول الراعية للإرهاب. وتشكل هذه الخطوة مثالاً ناجعاً على أن تحقيق الإنجازات في القطاع العام لا يتحقق بدون إرادة سياسية صلبة تستند إلى معايير موضوعية، أهمها وضوح الرؤية، تحديد الأهداف، حشد الموارد، التنفيذ، والتقييم المستمر. هذه الخطوط العامة وغيرها ساهمت في الوصول إلى هذا الإنجاز المستحق، والذي يشكل نقطة فارقة في مشروع الانتقال الديمقراطي.
على أهمية هذا الإنجاز كونه يساهم في جدولة ديون السودان لدى المؤسسات المالية العالمية، وبالتالي إمكانية الحصول على قروض تنموية واستثمارات أجنبية، لكن التحول الديمقراطي لن يتحقق بهذا الإنجاز فحسب، بل هناك مطلوبات داخلية لحصد ثمار الانفتاح على العالم الخارجي، أهمها على الاطلاق إصلاح القطاع العام، وهو مصطلح مختصر لعمل عويص وشائك يتضمن تشريح مؤسسات الدولة، بما فيها المؤسسات العسكرية والأمنية، ومراجعة مهامها واتساقها مع المشروع السياسي للانتقال الديمقراطي.
أيضا يشمل إصلاح القطاع العام مساقا مهما وهو التغيير النظمي Organizational Change والذي يهدف إلى تغيير سلوك وثقافة العمل عبر مراجعة مهام مؤسسات الدولة وربطها بالأنشطة اليومية. للأسف، لم تشمل قوى الحرية والتغيير معيار إدارة التغيير النظمي في ترشيحاتها للمناصب القيادية، بل استندت فقط إلى المحاصصة السياسية.
بالنظر لواقع الإصلاح المؤسسي في السودان، يمكن اعتبار "لجنة إزالة تمكين نظام الإنقاذ واسترداد الأموال"، التي أنشئت بناء على قانون تفكيك نظام الإنقاذ لسنة 2019، نموذجاً لاستحداث مؤسسي مواكب لرؤية سياسية تصب في صميم التحول الديمقراطي. فقد نص الاتفاق السياسي على تفكيك أوصال النظام السابق بما يسمح ببناء لبنة الانتقال الديمقراطي. لكن، تظل تركيبة هذه اللجنة، وآلية عملها، هي المعضلة وليست المؤسسة ذاتها. كما أن محاولات السلطة التنفيذية فرض ولايتها على الشركات الاستثمارية التابعة للقطاع الأمني تنضوي تحت هذا النهج.
على الرغم من معاندة القيادة العسكرية في عضوية المجلس السيادي لولاية وزارة المالية على الشركات العسكرية، إلا أن التشريع الأميركي المسمى "قانون التحول الديمقراطي والشفافية المالية في السودان لسنة 2020" والذي يشترط سيطرة المدنيين على أموال وأصول الأجهزة الأمنية والعسكرية وإدخال الإنفاق العسكري ضمن ميزانية عامة، يشكل مساهمة حقيقية نحو إصلاح مؤسسي جذري في السودان. فما زال حجم الإنفاق العسكري من أسرار الدولة التي ينبغي للمواطنين والمراقبين معرفتها وتتبع مساراتها.
بالنظر للتحول الرقمي، وهو مساق تنتهجه أغلب الدول التي تسعى لتطوير اقتصاداتها عبر تجويد أداء الإدارة العامة، فقد خصصت السلطة الانتقالية هيئة معنية بهذا الأمر، وهي الهيئة القومية للمعلومات، وذلك لدعم الحكومة الانتقالية تقنيا، خاصة في حوكمة المعلومات وإنشاء قواعد البيانات كخطوة أولية نحو بناء استراتيجي للخدمات الإلكترونية. ولكن تظل فاعلية هذه المؤسسة مثار شكوك نسبة لعدم تخصيص الموارد اللازمة لإحداث نقلة نوعية في مؤسسات القطاع العام.
نظرا لان السودان يقبع في ذيل قائمة النزاهة العالمية تحديدا في القطاع العام، فان قضية مكافحة الفساد لم تجد بعد الاهتمام اللائق من القيادة السياسية
خلافا لما سبق، لا تبدو في الأفق أي مبادرات للإصلاح المؤسسي وإدارة التغيير. فأغلب مؤسسات الدولة تفتقر إلى مواقع اسفيرية تعكس أنشطتها، دعك عن تقديم خدمات إلكترونية. أيضا، مؤسسات مهمة كديوان المراجع العام، هيئة الحسبة والمظالم، ديوان الضرائب، وغيرها من المؤسسات، ما زالت تعمل بنفس النسق القديم. على سبيل المثال، التحصيل الضريبي في موازنة العام السابق لم تتعدى نسبته 8٪ من إجمالي الناتج المحلي، وهو أقل بكثير من متوسط مساهمة التحصيل الضريبي للدول المجاورة في المحيط الأفريقي (16,5٪). كذلك، تفتقر السلطة الإنتقالية إلى مؤسسات مهمة كمفوضية مكافحة الفساد. نظرا لأن السودان يقبع في ذيل قائمة النزاهة العالمية تحديدا في القطاع العام، فإن قضية مكافحة الفساد لم تجد بعد الاهتمام اللائق من القيادة السياسية. فسياسة التعتيم وانعدام نظام منضبط للمساءلة ومحدودية المشاركة في اتخاذ القرارات وتحديد السياسات العامة، جميعها تؤطر لهيمنة الأقلية (Oligarchy) ومن ثم الاستبداد.
الإصلاح المؤسسي في القطاع العام تحديدا ليس من نوع الممارسات التي يتم دفعها من الأسفل للأعلى، بل العكس. لذلك، فهو يعتمد بصورة رئيسية على الإرادة السياسية والمقدرات القيادية لمن هم على هرم السلطة التنفيذية. فالتغيير يحتاج لموارد بشرية ومالية لن يتم توفيرها ما لم تكن للقيادة السياسية مصلحة فعلية في ذلك. وبالنظر إلى أن مشاركة قيادات الجيش السوداني والقوات غير النظامية، كقوات الدعم السريع، في السلطة السياسية، فمن غير المستغرب انتفاء رغبة الحكومة الانتقالية في أخذ خطوات جادة في هذا المسار. لكن، لو نظرنا إلى السلطة الانتقالية في السودان عبر عدسة الإصلاح المؤسسي، من الممكن أن نستنبط معايير معقولة لقياس أداء السلطة التنفيذية، ابتداء من رئيس الوزراء وحتى مدراء الإدارات في الوحدات الحكومية الأدنى.
عود على بدء، يجب أن يترجم الاحتفاء بإعادة السودان للمجتمع الدولي بالمزيد من الهمة والجديّة في استكمال مؤسسات الانتقال وإصلاح المؤسسات العامة، فالقروض والهبات لوحدها لن تخرج السودان من قمقمه، بل المؤسسات القوية القادرة على تحويل الرؤى السياسية لمشروعات تصب في التنمية الاقتصادية والإنسانية المتوازنة. هذه الواجبات لن تتحقق بدون ضبط بوصلة العمل السياسي بالسياسات العامة المحكمة لبناء مؤسسات قوية تساهم في تحقيق انتقال ديمقراطي مستقر ومستدام.